
في السفر عجائب ومقالب
(4)
طريقك أخضر حتى في الصين!!
عندي غرام قديم مع المطارات, فكم هو مبهر حقًا أن تتابع حركة الطائرات وهي تقلع من على الأرض, حتى تبتلعها أحضان السماء, أما الأكثر إبهارًا في نظري فكان هو هبوطها مرة أخرى على الأرض, وكأن السماء قد ولدتها من جديد, بعد أن كانت وبمن فيها غائبة في عالم الغيب, لتعود وتظهر مرة أخرى كنقطة بعيدة ذائبة في الهواء تنمو رويدًا رويدًا, ثم تشب وتترعرع وتبرز عجلاتها لتلتحم بالأرض في لقاء حارٍ لا يخلو من بعض الشرر المتطاير, فتبدو وهي تحط ببدنها على الأرض كمن تريد أن تضع حملها, فتقاسي معه من آلام المخاض, حتى تهدأ حرارة اللقاء ويستقر الحال, فيخرج الركاب تباعًا من بطنها .
لكن لم يكن كل هذا متاحًا للرؤية في مطار شنجهاي, الذي كان غارقًا “لشتوشته” في تلال من الضباب الرمادي الكئيب, فأحاطت بالمطار كما “بشت” صعيدي ثقيل مغزول من وبر الجمل, فأصبحت الرؤية شبه منعدمة من خلف أبواب ونوافذ ردهات المطار الزجاجية, ولا يفرق مطار شنجهاي كثيرًا عن مطار فرانكفورت, خصوصًا مع تلك الحالة الضبابية, وإن كان مطار فرانكفورت أكبر حجمًا وأكثر ازدحامًا, كما أعتقد طبعا فلست خبيرًا في جس أحجام المطارات, لكن مطار شنجهاي بدا بسقفه أكثر ارتفاعًا, فقد كان السقف مرتفعًا جدًا ولدرجة قد أبهرتنا فعلًا, خصوصًا إذا ما قارنت بينه وبين قامات الصينيين القصيرة !!
لكنهم قد بنوه على كل حال, ويبدو أنهم قد صنعوا لأنفسهم سلالم عالية ليصلوا بها إلى عنان السماء, وليس فقط ليبنوا بها سقف هذا المطار, وهل يوجد شيء في الصين ولم يبنه الصينيون, أو على الأقل لم يشاركوا في بنائه ولمرة واحدة فقط, ثم ينطلقون بعد ذلك ليبنوا مثله في كل أنحاء العالم, فالصينيون لم يتمتعوا حتى الآن برفاهية استلام المباني تسليم “لوكس عالمفتاح”, ثم يتباهون بما لديهم من مبانٍ بعد ذلك, كما القرعة التي تتباهى أمام الناس بشعر بنت أختها اليابانية أو الكورية السايح المنسدل على الكتفين, ثم بكي أمام المرآة على شعرها المتشابك كما سلك المواعين !!
إنما ظل الشيء الأهم في نظري من بناء المطار وارتفاعاته المستفزة فعلا, كان هو النظام المسيطر على كل شيء فيه, فكل شيء بدا أمامنا وهو يسير سلسلًا يسيرًا, وفي دقة مدهشة, رغم كثرة عدد القادمين من خارج الصين, والأكثر منهم بالطبع من كانوا يستقبلونهم من الصينيين, لكنا كنا نتحرك في طرقات المطار وكأننا نعرف كل شيء, فلم يتطلب الأمر حتى مجرد السؤال, ففي الصين الذي يسأل عن أي شيء قد يتوه فعلًا, فالإجابة سوف تكون بالطبع بوصفة سهلة ووصفة هايلة, وستصبح الليلة كبيرة ولكن باللغة الصينية, وحتى العلامات الإرشادية على الحوائط والممرات وكذلك الشاشات كانت كلها كذلك باللغة الصينية, إنما كيف كفانا الصينيون صعوبة ومشقة السؤال بسهولة ورفاهية المعرفة بلا إجابة, هذا ما لا لم أعرف له إجابة حتى الآن !!
أصبحنا على مشارف الخروج من باب المطار, ومثل لمسة حانية تحتويك وتحوط عليك بدفء بطانية كورية ثقيلة من طبقتين من نوع الدب الأصلي, كان الجو الذي سنفارقه داخل ردهات المطار, بدأت تهل علينا بوادر البرد الزمهرير الذي لم يكتف بالتربص لنا في الخارج, بل حاول التسلل إلى مفاصلنا من تحت أعقاب الأبواب الزجاجية, برد من ذلك النوع الذي يتعلق بأطرافك ويكلبش فيها بسماجة أمين شرطة خرمان ويريد سيجارة أجنبي, كانت سهاليب ذلك البرد تستقر رأسًا في ثنايا عظامك, بردٌ لم تفلح معه الجوارب والجواكت الصينية المضروبة التي كنا نرتديها وارد بورسعيد, فما كان أحوجنا فعلًا في تلك الساعة إلى طقم بلوفرات صوف تريكو, من تلك التي كنا نرتديها زمان فوق البيجامات “الكستور” من انتاج مصانع غزل ونسيج المحلة الكبرى, ولمن لا يعرف الكستور فهو نوع من القماش ستر وأدفأ الكثيرين من الآباء والأجداد, والمدهش أيضًا أنه كان نوعًا من ماركات الأتوبيسات, ربما ما تزال تسير وتبرطع بشكماناتها المفوتة في طرق وشوارع مصر حتى الآن, وقد رأينا أحد بشائرها هنا في الصين .
وصلنا أخيرًا إلى حيث ينتظر الأتوبيس الذي سيقلنا من مطار شنجهاي إلى الميناء الذي ترسو فيه السفينة التي تنتظرنا أيضًا, والبعيد نسبيا ويقع في أحد أطرافها في رحلة قد لا تقل عن ثلاث ساعات, يبدو أن الصين كلها كانت تنتظرنا في تلك الليلة, هذا إذا وصل هذا الأتوبيس طبعًا, بقِدمه ذلك الواضح و”كحكحته” التي تشبه الفنان “عبدالوارث عسر” في معظم أدواره, فقد ظل موتوره يسعل أمامنا من شكمانه وبشده, وكأن سائقه قد عبأ خزان وقوده بالمعسل القص لا بالسولار أو البنزين, ويبدو أن الأتوبيس المسكين قد أخذ هو الآخر دور برد ثقيل, ثم قلبت معه الحالة وتطورت إلى نزلة “شكمانية” حادة, من أفعال سائقه هذا الصيني المفتري الذي ربما قد تركه عريانًا هكذا في هذا البرد طوال الليل, ولم يشد على “كبوته” و “رفارفه” أي لحاف !!
لم نكن ندري هل سيصل بنا هذا الأتوبيس سليمًا, بعد أن يقطع بنا كل هذا المسافة, أم سيعاملنا سائقه بمنطق “إدي زوبة زقة”, وقد كان من شدة قدمه يستحق لقب “خردة”, ومن الواضح أنه ظل يستخدم منذ عهد المأسوف علي زعامته “ماوتسي تونج”, ولا أدري كيف سمحوا له بدخول مواقف المطار, ويبدو أن الأخوة أمناء الشرطة الصينيين الذين يقفون علي أبواب مطار شنجهاي, مثلهم مثل الأمين عبدالشافي وإخوانه البعدا عنا والحمد لله يقبلون بتطبيق العشرة “إيوان”, وهي عملة الصين الشعبية, لتستقر لهم تحت الرخصة, لزوم شرب الشاي الصيني من كل من هب ودب, ومن كل أتوبيس أو تاكسي مخلع مثل ذممهم الخَرِبة, ومن يُفتِّح مخه معهم يكون طريق عبوره مع هذا الشاي أخضر !!
نلتقي في الحلقة القادمة ..مطاردة غرامية في شوارع شنجهاي!!
إيهاب فاروق