
ديوان أسفار
للكاتب حسين جبار (ديموزي)
يبدو أن الأوضاع الراهنة في الوطن العربي لم تفلح في شيء، غير أنها ألقت بظلالها على دواخلنا، شئنا ذلك أم أبينا. والفئة الأكثر حظا، و الأكثر تحملاً للهموم في ذات الوقت، بين أبناء جيلنا هم الصفوة من الكُتاب والشعراء الذين تغذت موهبتهم على ثقافة حقيقية وشربت من أمهات الكتب حتى الثمالة، فتجد عقولهم تسبق اعمارهم الحقيقية. الذين نجحت موهبتهم في بلورة المشاعر والأفكار المتابينة، والتى ترقى في أحيان كثيرة إلى حد الصراعات والتقلبات المزاجية والحسية الحادة والتي تبدو للتقليديين منحرفة أحيانًا.
إن وضع أعمال مثل هؤلاء الكُتاب تحت دائرة الضوء يكشف لنا ما يعجز الكثيرون عن التعبير عنه أو الخوف من البوح به، من خلال قالب فني لا يخلو، رغم سقوطنا في هوة اليأس، من غريزة الإنسان الأبدية في حب البقاء من خلال خلق عالم آخر ورسم خارطة للغد قوامها الفكر الواعي والتمرد على الأوضاع الحالية. ومن بين هؤلاء الكتاب الشاعر والمثقف العراقي حسين جبار والمعروف ب” ديموزي” وإن كنت أحب وصفه بـ “المتمرد”. ستكتشف من مطلع ديوانه الموسوم بـ “أسفار” أنك أمام تماهي بين شاعر ومفكر يحمل رؤى جديدة من خلال تقديم الشعر في ثوب خاص جاء من خلال ما قدمه من قصائد نثرية وشعر حر، وقد واجه الديوان صعوبات في النشر وتم وأد بعض القصائد ليس خللا فيها لكن لما تحمله من أفكار غير مألوفة لمن يركن إلى السلامة في ظل ما نواجهه من ردة فكرية وحتى تخرج القصائد الآخرى إلى النور.
ولكن الأفكار دائمًا لها أجنحة وأبدًا لا تموت. وقد أستطاع ديموزي من خلال عمله الأول “أسفار”، الذي صدر عن دار المكتبة العربية للنشر والتوزيع، في تقديم سجلٍ لمرحلة فكرية يمر بها الشاعر ويمر بها المثقلين بالفكر من أبناء جيلنا. أعلم أن هذا قد يكون حشراً للشعر في ساحة الفكر، أو العكس، وقد لا يكون هذا مبرراً فنياً أو ربما يعتبر إخراجا للشعر عن حقيقته وجوهره. ولكن ما هو جوهر الشعر؟ لا أخال الجواب سهلا حتى على أعمق النقاد. ذلك أن محاولة معرفة جوهر الشعر هي في الحقيقة محاولة لمعرفة جوهر الإنسان. فما الشعر إلا ذات الشاعر وقد تلبست حروفا لا لحما وعظاما. والإنسان خليط من الفكر والحلم، الواقع والخيال، وكذلك هو الشعر. وهذه المجموعة من القصائد تحتوي -على ما أعتقد!- هذا الخليط أيضًا. فيها فكر من يرى تراجع امته وتقهقرها، وحلمه بغد أفضل، وفيها واقع يجثم على الذات الإنسانية العربية بعامة والذات الشاعرة بخاصة، وفيها كذلك خيال، ذلك الجناح الذي نستطيع به التحليق بطاقاتنا الخلاقة لنخلق مساحة من الجمال الذي يغذي شريان الأمل
.
إن أسفار، هي كذلك بالمعنى المادي من خلال تقسيم الديوان إلى أقسام مختلفة وكل قسم يسمى سفرا، مثل سفر النشأة الأولى، سفر الأرض،…الخ. وهي أسفار بمعنى السفر إلى رحاب معانٍ مختلفة ومتنوعة يربطها تجمعها في ذات الشاعر. لذلك هي أشبه ما تكون رحلة مع الإنسان: بدءا من النشأة الأولى، إلى الهدف الأخير من وجوده وهو، كما يراه الشاعر، المعنى. المعنى من الوجود: من الحياة والموت. وأنا أعتقد أن هذا المعنى هو أعظم ما يبحث عنه الإنسان، وهو أعظم ما بدأ يخسره عصرنا! وهذه مهمة ولا شك عظيمة، قد يكون حتى من التبجح أن يأخذها الإنسان على عاتقه، ولكنها على عاتقنا رغما عنا، إلا إذا شككنا بوجودنا! وأعتقد أن ديموزي نجح إلى حد كبير في الوصول إلى ذلك المعنى، أو كما قال: “لست أدري إلى أي مدى نجحت في الوصول إلى ذلك المعنى، وهل سلكت الطريق الصحيح حتى؟ ولكن العبرة هي في السير أولا.”