
وأطلقتْ جناحيها للرياح
في يومٍ قائظِ الحرارة تماوجت رائحة الدماء.. كانت الكلاب اللاهثة تراقب المشهد وتلعق الهواء، والأولاد متحلِّقين حول «رشدي» جارنا بعد أن غدر بعنزتهِ، وتدلّى رأسه الضخم بين كتفيه بسحنتهِ العابثةِ المخضبةِ بالدماءِ وأنفه الضخم، وخرزتَي عينيه ترهباننا وفمه الذي كاد يلتهمنا زاعقًا بصوته المرعب وعروق رقبته النابضة بالشر.
صوته المخيف كان يدفعني إلى الخلف ثم إلى الأمام. كان رجلًا سبَّابًا.. حاقدًا.. لا يسعى إلى نجدة إنسان ولا يقضي حاجة محتاج، وكانت عيناي تزرفان دموع الإشفاق على تلك العنزة المسكينة التي كانت تنظر إليَّ وتستجير. قبل ثلاثة أشهر أو يزيد كان «رشدي» يقيِّدها في سور الحديقة، وما خُلع عنها قيدها إلا وقت ذبحها.
دخلتُ البيت ورميتُ أثقالي في حضن أمي ودفنت وجهي في صدرها. قالت أمي وهي تنظر إلى جدتي: “البنت نجمها خفيف”. فأشارت عليها جدَّتي أن تذبح لي شيئًا، فازداد صدري تهدجًا وكانت أعضائي تتبعثر وغابت عيناي وغرق وجهي بالكامل في بحر من الشحوب. شعرت أمي بحرارة جبهتي وقالت: “البنت نجمها خفيف”. تَكبِش من الملح وترقيني، تُلبسني فستانًا أحمر وتعلِّق على صدري سلسلتي الذهبية والـ«ما شاء الله» والكفّ الذهبيَّة، وشبكت حجابًا مثلث الشكل مصنوعًا من جلد البقر بثنايا ملابسي من الداخل.
زارنا خالي بعد عدة أسابيع ومعه فرخ بط أصفر. كان لطيفًا ومستأنسًا وكان ينقر رأسي بمنقاره في دعوة منه إلى اللعب، يتسكع في الشوارع والحديقة ويقود سربًا من بطات الجيران إلى البحيرة، وقد علَّمته التقبيل فكان يطأطئ رأسه كلما رآني عائدةً من المدرسة. يجلس بجواري وأنا أكتب واجباتي المدرسية وأربِّت على بطنه وظهره فيطأطئ رأسه في امتنان، فأُطعمه قطع البسكويت.
وذات يوم عدتُ من المدرسة فلم أجده في استقبالي كما تعودت، وشممتُ رائحة شواء يعبق بها هواء البيت. قالت لي أمي وهي تزيل شعري الممتزج بدموعي عن وجهي: “صغيرتي، لقد خُلقت هذه الكائنات من أجل أن يأكلها البشر”. فوقعت وغابت عيناي مجددًا، وأمي تتحسس حرارة جسدي وتقول: “البنت نجمها خفيف”. فترد جدتي من داخل غرفتها: “لا بد أن تذبحي لها شيئًا آخر. هذا لا يكفي”.
زارنا خالي بعد عدة أسابيع ومعه فرخ حمامة صغيرة ألوانه مرجانية، ينعكس من ريش جناحيه اللون الأخضر كلما ضربه الضوء، فيبدوان كقطعة من الزمرد. وبعد مرور أسبوعين كانت أمي تقص ريش جناحيه، فعلمت أنها إرهاصات الغدر، وصرخت في وجهها أن تتوقف، فقالت: “إذا تركت ريشه ينمو سيطير، وإذا طار مرة لن يعود.” لكني لم أهتم بما قالت أمي وأصررت فامتثلت وتركت للحمامة ريش جناحيها، فكانت الحمامة تطير وتطير في الهواء منذ الصباح ثم تعود في الظهيرة، ثم أصبحت تطير باكرًا وتعود عصرًا، ثم طارت في الصباح وعادت مساءً، إلى أن طارت في بداية يوم وكنت أنتظرها عند النافذة لكنها لم تعد. لم أشعر بفقدانها وتنفست بارتياح وشعرت بالانتصار يلامس قلبي.. لم أهتم بامتلاك الحمامة بقدر رغبتي في أن أتركها تطير بإرادتها. شَقَّت السَّحاب بجناحيها اللذين أطلقتهما قبلًا للرياح.