هل يرث المسيحي المسلم؟
مناقشة منع الميراث لاختلاف الدين، وضرورة تعديل المادة السادسة من قانون الميراث المصري

بقلم : حسام الدين عوض
جاء في المادة الرابعة والعشرين من القانون رقم 77 لسنة 1943 ، مايلي:
(المحروم من الإرث لمانع من موانعه لا يحجب احدًا من الورثة) انتهى
ومن المعلوم أن موانع الإرث وفق المذاهب السنية الأربعة- ثلاثة: أولا القتل (ويراد به: قتل القاتل لمُورِّثِه) ، والثاني: الرِّق ، والثالث: اختلافُ الدين.
وسوف أناقش في هذا المبحث مسألة اختلاف الدين نظرا لارتباطها الوثيق بالواقع المعاش، ولتكدّس المحاكم المصرية بمثل هذا النوع من القضايا، لاسيما حالة الزوجة الكتابية التي لايحقُّ لها -وفق التراث الفقهي والقانون المصري- أن ترث زوجها ، وكذلك الابن أو الابنة المسلمين لمُورِّث كتابيّ.
حيث بيّنت المادة السادسة من القانون ألا توارث بين المسلم وغير المسلم ، وقد كنتُ أتساءل ..
كيف لزوجة كتابية أحلَّ اللهُ تبارك وتعالى للمسلم الزواج منها، وقد عاشت مع زوجها -ربما- لعقود، وكان بينهما من المودة والرحمة والأولاد والذكريات المشتركة، ثم بعد أن يموت ذلك الزوج، لايكون للمرأة الحق في وراثة شئ من ماله!
ثم تُترك لتتكفَّفَ الناس على اعتبار أنها كافرة!
كنتُ أحدِّثُ نفسي قائلا: هذا بعيدٌ -والله أعلى وأعلم- عن عدل الإسلام.
وكما يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله- : الشريعة عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، وحكمةٌ كلُّها، ومصلحةٌ كلُّها، فكلُّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل. (1)
قال المعارض: المسألة محلّ البحث مما لاينبغي أن يحكم عليه بمستند الهوى والتشهّي، فقد جاء في المسألة نصٌ صريحٌ صحيحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيحي البخاري ومسلم، أي أنّه في أعلى درجات الصحة ؛ فعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لايرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم (2)
والجواب على تلك المعارضة : أمّا قولُك: إنه صحيحٌ ، بل وفي أعلى درجات الصحة سندا، فقولٌ لا غُبار عليه، وأما قولُك إنّه نصٌ صريحٌ في المسألة قيد البحث، فلا أسلِّم لك به! والجواب عليه من وجهين:
أما الوجه الأول: فالحديث جاء بلفظة “الكافر” ولم يأت بلفظة “الكتابي”! ولا أدري كيف تحوّل لفظ “لايرث المسلم الكافر” … إلى “لايرث المسلم الكتابيّ” والعكس بالعكس.
وأما الوجه الثاني: فالحديث مجرَّدٌ من سياقه الظرفيّ، وربما كان لهذا السياق أثرٌ بالغٌ في فهم وتوجيه ذلك الحديث النبوي الشريف، فقد كان المسلمون يعيشون أجواء الصراعات الدينية مع مشركي مكة الحريصين على استئصال شأفة الإسلام وفتنة المسلمين في دينهم، فربما كان السياقُ مناسباً لمقتضى الحال، أمّا إسقاطُه على الواقع حيثُ انتهت الحروب الدينية ، وزالت الأمم القائمة على أساس العقيدة لتحلّ محلّها الدُّوَلُ القُطرِيَّةُ التي تحكُمُها دساتير تفصل بين الدين والدولة وحيث يمارس المسلمون وغيرهم شعائر دينهم بكل حرية وأريحية ، فيُعَدُّ ذلك الإسقاط ؛ إسقاطاً في أغلاط!
ومن المعلوم أن التوارث يكون بين الأقرباء، وقد كان المجتمعُ الذي نزلت فيه رسالةُ الإسلام مجتمعاً قَبَلياً طبقياً يقوم على الولاء للقبيلة ويصنِّفُ الناسَ إلى السادة في مقابل العبيد، وكان أهلُهُ يتَّبِعُون القيم والعقائد والتصورات التي توارثوها عن الآباء، وكان اعتناقُ بعضِهِم لدينٍ جديد بمثابة مخالفةٍ جسيمةٍ لتلك القيم الموروثة، ولهذا حرصَ القرآنُ الكريمُ على تجريد المسلمين الأوائل قريبي العهد بالجاهلية من وشائج القربى تلك، وعلى تحويل بوصلة انتمائهم باتجاه العقيدة فقط، بقطع النظر عن انتماءاتهم القديمة، سواءٌ أكانت متعلقة بالقبيلة أو اللون أو الجنس أو الطبقة، فحين تُسَاقُ الآياتُ الكريمة أو الأحاديث الشريفة في سياقٍ آخر، فإنّ هذا يمثِّلُ خلطاً بين الإسلام وبين المجتمع الذي نزل فيه الإسلام!
هذا وإشكال مرويات السنة القولية، أنّ الرواة رووها -في كثير من الأحيان- مجردةً من ملابساتها وسياقاتها الضرورية لفهم الموضوع، فخلط بعضُهُم بين ماهو تشريعٌ دائم، وماهو حكم قضائي يتعلّق بحالة بعينها، ثمّ قاموا بمدّ أثر خط الحكم على استقامته إلى مالانهاية!
يقول الزركشي: (تَصَرُّفَاتُهُ صلى الله عليه وسلم تنْحَصِرُ فِيمَا يَكُونُ بِالْإمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالفتوى) انتهى كلامه (3)
قال المعارض: وكلُّ كتابيٍ كافر!
ألم تسمع بقول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِية}
قلتُ: وكذلك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (الحج : 17)
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة : 62)
وقال: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (المائدة : 69)
قال المعارض: هذا في اليهود والنصارى والصابئة ممن لم يدرك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما من سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، ولم يؤمن به، فلاشكّ أنه كافر، وأنه من أهل النار، “وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لايَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ” رواه مسلم.
قلتُ: الجواب على هذا من وجهين: أما الأول: فوجود اسم الإشارة في عبارة “من هذه الأمة” يلزمُ منه التعيين ، أي: الإشارة إلى أمة بعينها ، والمراد -والله أعلى وأعلم- : أمّةُ العرب من أهل الكتاب الذين عرفوا صفة رسول الله ووجدوها في كتبهم لكنهم لم يؤمنوا بما جاء به رغم قيام الحجة الرسالية عليهم ، وإلا فالمعارضُ يستدلُّ بهذا الحديث على استحقاق جميع الأمم للوعيد فلماذا خصّ متنُهُ أهل الكتاب دون غيرهم؟ ويلزمُهُ عندَها أن يقرَّ بخصوص الوعيد فيهم هم دون سواهم من المجوس وعبدة الكواكب! فلو قال هذا لكان استدلالُه به أدلَّ على نقيضِ حُجَّتِه لأنَّ المسلمين يعلمون بداهةً أنّ أهلَ الكتاب أقرب إليهم ممن سواهم من أهل الملل والنحل الأخرى!
وأما الثاني: فالسماع هنا لايرادُ به مجرد وصول الخبر إلى طبلة الأذن! وإنما المراد: المعرفة النافية للجهالة والسالمة من كل معارض ، وإلاّ فالإيمان المطلوب ، يعسر انعقادُهُ بمجرَّد السماع! فضلاً عن السماع المجرد ، وإنما يلزمه تمام وصول العلم ، الذي يمتنع حصول اهتداء القلب إلى الحق بغيره ، وإلا كان إيماناً سطحياً مشوشاً معرضاً للهزات والاضطرابات ، ومثلُ هذا الإيمان لاينفعُ صاحبه على فرض حصوله له وهو ممتنع!
ولذلك ، فاللهُ تبارك وتعالى يقول على لسان عيسى -عليه السلام- : {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة : 118)
فكيف يغفر الله لكافر؟! وقد قال في الكفّار: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (سورة النساء : الآية 256)
قال المعارض: هذا يوم القيامة ، ونحن نتكلم عن أحكام الدنيا لا عن أحكام الآخرة! فكيف تخلط بين المسألتين؟
قلتُ: سمّى اللهُ تبارك وتعالى طائفتي اليهود والنصارى في القرآن الكريم بمسمّى “أهل الكتاب” ، وأجاز للمسلمين أكل طعامهم والزواج من نسائهم ، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (سورة المائدة : الآية 5)، ولستُ أدري متى وكيف ظهرت التسوية بينهم وبين الكفّار الجاحدين للمعاد والمنكرين للحساب والبعث والنشور! وفي هؤلاء قال اللهُ تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، كما قال تبارك وتعالى: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. صدق الله العظيم
فكيف يمكن الجمع بين الآيات التي يفهم من ظاهرها كفر النصارى ، ولو كان الأمر كما يظنّ المعارض فهذا يعني أن الكفر محصور على النصارى فقط فماذا عن اليهود؟ وكيف يمكن الجمع بينها وبين الآيات الأخرى التي يفهم منها نجاة كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً؟ ولماذا يبتلي الله تبارك وتعالى غيرنا بالحياة والموت والفقر والمرض؟ والعجز والعوز؟ تماماً مثلما يبتلينا بكل هذا … طالما أنَّ مصيرَهُم معلومٌ سلفاً؟
يُجاب على هذا الإيراد من وجهين:
أما الوجهُ الأول: فربما كان المراد بقوله تعالى: (لقد كفر) أي: كفر النعمة، التي هي الكتابُ الذي شهد الله تعالى لهم به -أي:اليهود والنصارى- أنهم من أهله، وليس الكفر به تعالى، وإلا فهم متفقون معنا في أصل قضية الإيمان بالله تعالى، وفي أنهم لايجحدون المعاد!
وأمّا الوجهُ الثاني: فمثل تلك الاستخدامات شائعة في اللسان العربي ، أي: إطلاق لفظ الجميع مع إرادة المجموع ، أو الكل مع إرادة البعض ، والعكس بالعكس!
وهكذا ومن خلال الجمع بين الآيات وبين بعضها البعض نجد أنّ التكفير قد يُحملُ على أحد احتمالين:
الأول: من ابتدع هذا القول الفاسد من رهبان النصارى الأوائل ، على خلاف ماجاء به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أنّ الآية عامة والمرادُ أنّ هذا القول منهم جميعا أو من بعض طوائفهم كفر ، ولايلزَمُ أن يكفرَ كلُّ قائلٍ به ، لأنه ربما كان جاهلاً مقلدا لغيره فيما يقول، وربما كان متأولا، والجهل والتأويل مانعان عظيمان من موانع تكفير المعيَّن، ليت شعري لم لانطبقها على الكتابيين؟
والخلاصة: أنّ الكافر هو من قامت عليه الحجة ، وبانت له المحجة ، ووصله العلم النافي للجهالة ، وتيقن من أنّ هذا هو الحق ، لكنّه -رغم حصول هذا اليقين وتمكنه منه- أعرض عنه أو عارضه أو نازعه أو غطّاه أو أنكره أو جحده أو رفضه أو كذَّبه (وهذه كلها من معاني الكفر) ، فمادام في مرحلة البحث أو مادام غير عاجزا عنه غير أهل له كحال عوام المسلمين قبل عوام غيرنا ! ولمّا يصل بعدُ إلى اليقين ، فلا يصحُّ أن يوصف بالكفر ، أو أن ينسبَ له!
وأمّا من لم تصلهم الدعوةُ ولم تقم عليهم الحجة ، أو وصلتهم بخلاف الطريقة التي تؤهلهم لاتخاذ قرارٍ صحيح بإزائها ، فحكمهم -والله أعلم- حكم أهل الفترة الذين قال الله تعالى فيهم: “وماكنَّا معذِّبين حتى نبعث رسولاً” (الإسراء:15)
قال المعارض : لكننا في زمن التقدم العلمي والتكنولوجي ، حيث أصبح العالمُ أشبه بالقرية الواحدة ، فلايمكن لأحدٍ أن يتذرّع أو أن يحتجّ بأن الإسلام لم يصل إليه! كان ينبغي عليه أن يدرس حتى يهتدي إلى الحق.
قلتُ : فهل حرصت أنت على دراسة الأديان الأخرى؟ هل تعرف الفرق بين درجة اللاهوت والناسوت وفقاً للاعتقاد الأرثوذكسي في مقابل الكاثوليكي؟ هل تعرف شيئاً عن الكارما والبراهما؟ هل تعرف الفارق بين رؤية الراهب كاشيابا للبوذية ، في مقابل الراهب أناندا ، وكتاب “سمهتا” اللي وضع أسساً مختلفة للهندوسية عن أسس “ممها بهارتا”؟
قال : ولماذا أفعل وأنا أعلم أن الإسلام هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال!
قلتُ : وهو يظنُّ مثلما تظنُّ أيضاً ، وأكثر الناس -لو تعلم- يشبون ويشيبون على ماولدوا عليه، والقليل النادرُ منهم من يكلِّفُ نفسَهُ عناء البحث في الملل والنِّحلِ التي لم يرثها عن آبائه وأجداده، وهو أمرٌ يعسرُ على من أراده لأنه يستلزم دراسة عشرات اللغات وقراءة آلاف الكتب! وأكثرُ الناس مهمومون بهموم العيش وبالسعي في تحصيل الرزق.
يقول المفكر العراقي الراحل علي الوردي: “الإنسان في أكثر الأحيان لايختار عقيدته بإرادته، بل يتلقاها من محيطه الاجتماعي جاهزة، ثم يتصور أنها خير عقيدة أنزلت للناس” أ.هـ .
قال : لكنّ الإسلام مبذورٌ في كل فطرة ، ولايحتاجُ إلى هذه الدراسة المتعمقة المضنية التي تقصرُ عنها كلُّ همّةٍ بشريةٍ ، فكأنَّك تمنحهم تكئة وتستميحُهُم عذراً على وقوعهم في الكفر!
قلتُ : الإيمان والكفر موقفان إيجابيان لابدّ أن يكونا مسبوقين بوصول العلم الضروري! فمادام هذا العلم الذي تقوم به الحجة وتبين به المحجة لم يصل إلى الإنسان وصولاً صحيحاً يحرِّكُ فيه داعية الطلب ، فلايصحُّ أن يوصف عندها بالكافر! لأنَّ الكفر هو العناد من بعد معرفة الحق ، ولذلك قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) في سورة النساء مايلي: وقوله : ( من بعد ما تبين له الهدى ) أي : من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام انتهى كلامه (4)
قال المعارض: هذه المسألة إجماعية، ولا أعرف أحدًا قبلك قال بجواز التوارث بين المسلم وزوجته الكتابية، أو بين المسلم وأبيه غير المسلم ، وقد نقل هذا الاتفاق العلامة ابن رشد الحفيد المالكي (450 ـ 520 هـ) فقال في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» ما يلي: «أجمع المسلمون على أنّ الكافر لا يرث المسلم؛ لقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا); ولما ثبت من قوله(صلى الله عليه وآله): لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.” انتهى كلامه
قلتُ: لا !
ليست المسألةُ إجماعيةً كما تقول، وإن كان منع الكافر من وراثة المسلم قول الجمهور، فهناك من الصحابة من خالف فيها! (5)
وأما منع وراثة المسلم من الكافر فصحيحٌ أنّ هذا قول الجمهور أيضا، إلا أنّ جمعا من الصحابة والتابعين، ثم من فقهاء السنة خالف في ذلك، كما ذهب فقهاء الشيعة الزيدية والاثنا عشرية والإمامية إلى القول بجوازه، وقد نقل بعض هذا ابن رشد نفسُه الذي تستدلُّ بكلامه بعد أن بترته من سياقه في مجافاة للأمانة العلمية ومجازفة بأقوال الفقهاء ونقولاتهم، حيث استند معظم هؤلاء لفكرة وجيهة قوامُها أنّ المسلم أولى بهذا المال من غيره من ورثة الميت من غير المسلمين -لا أقول الكفار-! إذ ربما يستعان بهذا المال أو ببعضه على حرب المسلمين، مما يعضد كلامي في أنّ المسألة إنما كانت تتعلق بأجواء الحروب والصراعات الدينية التي عاشها المسلمون الأوائل وربما جاء المنع النبوي في سياق تلك الأحداث والظروف.
وأما العبارة المبتورة من كلام ابن رشد في المصدر المذكور، فهي كالتالي؛ قال ابن رشد: واختلفوا في ميراث المسلم الكافر، وفي ميراث المسلم المرتد؛ فذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إلى أنه لا يرث المسلم الكافر، بهذا الأثر الثابت، وذهب معاذ بن جبل ومعاوية من الصحابة، وسعيد بن المسيب ومسروق من التابعين وجماعة إلى أن المسلم يرث الكافر، وشبَّهوا ذلك بنسائهم، فقالوا: كما يجوز لنا أن ننكح نساءهم ولا يجوز لنا أن نُنْكِحَهم نساءنا كذلك الإرث. ورووا في ذلك حديثاً مُسنَداً ، قال أبو عمر: وليس بالقوي عند الجمهور. وشبَّهوه أيضاً بالقصاص في الدماء التي لا تتكافأ. انتهى كلامه من المصدر المذكور.
قال المعارض: كلامُك هذا يعني ألا نطبق شيئا من أحكام الإسلام (كباب الميراث) على كل من لايدين بالإسلام، حتى نستطلع أمره! وحتى يتبين لنا إن كانت الدعوةُ قد وصلته وصولا صحيحا أم لا! هذا يفتحُ بابا للشر والفتنة قد كنا في غنى عنه!
قلتُ: هذه المسألة تتطلبُ جهدًا جماعيًا جادًا ومخلصا بغية بحثها من كافة الجوانب، وباعتباري في مرحلة الدراسات العليا، فإني أرى أنّ طرق هذا الباب صار لزامًا على المهمومين بمسائل الشريعة الإسلامية، وإنْ وصلتُ إلى نتيجة خاطئة! فقد نلتُ شرف المحاولة وشرف لفت الأنظار إلى معاناة كثيرين، والمحاكم المصرية مليئة بقضايا من هذا النوع .
تقول السيدة فيرنا ميشيل مايلي: “بعدما اتخذتُ خطوة الزواج من رجل مسلم، قرأت كل قوانين الأحوال الشخصية والميراث، وفوجئت بنص المادة 6 من قانون المواريث، لذلك اتخذت كل اللازم لضمان حق ابني”. وتصف القانون بأنه ظالم، لأن هذه الزيجة صحيحة وفق القانون والدستور والشريعة، ويجب مراجعة القوانين التي تحرم أي مواطن من حقوق طبيعية، متسائلة: “كيف لا يرثني أبنائي وعلاقتنا هي الأقوى على الإطلاق؟” انتهى كلامُها كما ورد في مقال الأستاذة أمنية طلال المنشور على شبكة الإنترنت (6)
——————————-
الخلاصة:
أرجو أن يُعاد النظر في المادة رقم (6) من مواد قانون الميراث المصري رقم 77 لسنة 1943 ، وعلى كل ماترتب عليها من أحكام.
فإذا ثبت صحة ماذهبتُ إليه في هذا البحث المختصر نسجًا على منوال من سبقني إليه، فأكون قد أسديتُ خدمة للعلم وأهله الذين أرجو أن أنال شرف الانتساب إليهما، وإلا .. فهذا رأيي الذي أدينُ الله تبارك وتعالى به، وعليه ألقاه .. ورأيي صوابٌ يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب.
ولستُ أخشى أن يُقال: نقض الإجماع!
فالإجماع الأصوليُّ نفسُه يحتاج إلى إعادة ضبط وتعيين لحدّه وضابطه.
فهل هو إجماع السنة؟ أم الشيعة؟ أم هما معا؟ وهل هو إجماع أهل القرون الثلاثة الأولى؟ أم مَنْ جاء بعدهم؟ وهل هو إجماعُ الصحابة؟ أم آل بيت النبوة؟ وهل هو إجماع الكوفيين أم البصريين أم أهل المدينة؟ وقد كانت وسائل الاتصال والتواصل بين جميع أولئك وهؤلاء عسيرة فقيرة بالإجماع!
فيما تيسّر كل ذلك في زمننا، وصار من اليسير على فقهاء الأمة وعلمائها أن يجتمعوا من خلال برنامج (زووم) أو غيره ، لدراسة الأمور المشكلة، ممن أخذ الله عليهم الميثاق (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) صدق الله العظيم
وكم من مسألة قيل لنا إنها محلّ إجماع ، ثم عند التحقيق؛ يتبخّرُ ذلك الإجماع ويصير أثرا بعد عين كما تقول العرب.
وأضرب لهذا مثالين ..
فقد نقل بعضُ الأكابر في شأن الاستماع (الغناء) أنّ الإجماع منعقدٌ على حرمته، ثمّ ألّف غير واحدٍ في نقض ذلك الإجماع المزعوم، والحافظ الشوكاني علامة أهل اليمن له كتابٌ معروفٌ في هذا الباب، سمّاه: (بطلان الإجماع على تحريم مطلق السماع)ز
وأما المثال الثاني فيتعلق بالشيخ (محمد أبي زهرة) الذي أعلن عن رأيه في مسألة (الرجم) في أحد المؤتمرات الفقهية ، وهو الرأي الذي صرّح هو بنفسه -حينها- أنه كتمه في نفسه عشرين سنة! وهو من هو .. في مصافّ العلماء ، ومراتب الفقهاء
فلماذا فعل؟
هل خوفاً من هياج العامة؟ وتأليب الأنداد من الحُسَّاد للجماهير ضد فضيلته؟ أم توجُّسًا من أن يُسقطَ رجلٌ نزفَ حياتَهُ في خدمة الإسلام والعلم مثله ثم يجد نفسه -ربما في آخر عمره- في قفص المتهم بالزندقة! ليُشطَبَ على سائر إنتاجه العلمي والفكري والفقهي؟ كما حدث مع كثيرين سبقوه أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر .. الإمام الشاطبيّ -رحمه الله- صاحب الموافقات.
فكيف إذن بمن هم دونه؟ وكم رأيًا كتمَها أصحابُها خوفًا من التشهير والتحامق والتطاول؟ ثمّ ماذا نتوقع من أمة تصادر حق تداول الأفكار؟ ويخشى أكابرُها من مجرد البوح فكيف بالسباحة ضد اتجاه التيار؟ فيما يقتات عوامُّها على هوس الإدانة والمجازفة وإلقاء التهم المرسلة! والله المستعان على مايصفون
—————————-
قائمة المصادر والمراجع
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج3 / ص3).
(2) متفق عليه، أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما.
(3) الزركشي في البحر المحيط (ج 8 / ص 254).
(4) التفسير الكبير “مفاتيح الغيب” للإمام الرازي.
(5) رسالة ماجستير في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية للباحث غيث هاني القضاة، نشر بعضها في مقال له على الإنترنت.
(6) موقع (رصيف 22) وتحت عنوان (بين رفض الكنيسة و”لا يرث المسلم الكافر”… أين حقوق أبناء الزواج المختلط في مصر؟)