
بقلم: حسام الدين عوض
منذ نحو عشرين سنة، كانت لزوجتي صديقةٌ مقرَّبةٌ تخرّجت في كلية الطب، وكانت تتمنى أن تنتقب وأن تتزوج شخصًا مُتديّنا مُلتزِمًا بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كانت من المتأثرين بآراء الشيخ أسامة عبد العظيم حمزة الذي رأت فيه نموذجًا فريدًا في العبادة والزهد، يذكِّرُها بأحوال الصحابة، وعُلُوِّ همم التابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
تقدَّمَ لها كثيرٌ من الخطاب لكنّها رفضتهم جميعًا لأنَّهم لم يكونوا ملتحين!
وفي النهاية تقدم لها الملتحِ (كانَ مُتخَرِّجًا في كُليّة التجارة) وتمّ الزواج الميمون لإصرارها عليه رغم رفض والديها (الطبيبيْن) نظرًا للتفاوت الاجتماعيّ الكبير بينهما.
مرّت سنوات .. ذاقت المسكينة فيها على يديه الويلات! لتنتهيَ القصةُ المكرورةُ بالطلاق، ثمّ بخلعها ربقة التديُّن برمَّتِه! ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
في هذا التسجيل، يعلنُ الشيخ أسامة عبد العظيم عن رأيه الفقهي في اللحية التي يراها -شأنه في ذلك شأن التيار السلفي كله- حدًا فاصلاً بين الالتزام والتسيّب، وبين المُتديِّن وغيرِ المتديِّن!
كنتُ قد عرفتُ الشيخ أسامة -أول ماعرفتُه- من خلال محبيه ومريديه الذين كانوا يأتون إلى الجامعة مرتدين الزي الباكستاني، مع لحى كثّة غير مهذّبة ولامشذّبة، تبدو عليهم المثالية، التي لاتلبث إلا أن تنقشع عن خلافها بعد فترة من الزمن!
وكانت الزميلات يرتدين النقاب الأسود الذي يغطيهن تمامًا، عملاً بما يعتقدن أنّه سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمّهات المؤمنين.
ثمّ إنّ بعضهنّ قررن ترك الدراسة في الجامعة مطلقًا، حرصًا على تجنُّب الاختلاط المحرّم! وعملا بقول الله تعالى {وقرن في بيوتكنَّ ولاتبرّجن تبرُّج الجاهلية الأولى} وفق مافهموه وظنّوه، وإنّ الظنّ لايغني من الحق شيئًا !
قال المتأثرون بالشيخ: إنّه كان عابدًا زاهدًا، ومثلا فريدًا في علوّ الهمة في العبادات والطاعات، فقد كان يقف لساعاتٍ في صلاة الليل، وهو الرجلُ المسنّ الهرِم، فيما يعجزُ الشبابُ عن مسايرته، ثُمَّ إنَّه ختم القرآن الكريم في الصلوات الجهرية نحو ألفي مرة في مسجده بالقاهرة.
كنت أقولُ لهم: إنّ الإطالةَ المُبالغ فيها في الصلوات أمرٌ لم يعرفه المسلمون الأوائل.
فضلا عن أنّه لم يؤثر عن النبي -عليه السلام- ولا عن صحابته الكرام، ذلك العددُ الكبير من الختمات في الفرائض، بل هو خلاف السنة النبوية، فقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإطالة في الصلاة أو الخطبة.
أخرج البخاريُ في صحيحه أنّ معاذ بن جبل كانَ يُصَلِّي مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ يَأْتي قَوْمَهُ فيُصَلِّي بهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَرَأَ بهِمُ البَقَرَةَ، قالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذلكَ مُعَاذًا، فَقالَ: إنَّه مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذلكَ الرَّجُلَ، فأتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بأَيْدِينَا، ونَسْقِي بنَوَاضِحِنَا، وإنَّ مُعَاذًا صَلَّى بنَا البَارِحَةَ، فَقَرَأَ البَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أنِّي مُنَافِقٌ، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يا مُعَاذُ، أفَتَّانٌ أنْتَ؟! -ثَلَاثًا- اقْرَأْ: والشَّمْسِ وضُحَاهَا، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى، ونَحْوَهَا.»
ثمّ إنّ الانقطاع عن الدنيا والتفرغ التام للعبادة الشعائرية، مع حظر جميع أنواع الفنون والآداب، وتحريم السينما والمسرح والتليفزيون، ومنع التصوير والرسم والموسيقى والغناء، هو أمرٌ عسيرٌ جدًا على النّفس!
وحتّى إذا تيسّر للبعض في بعض أوقات العمر، فلايمكنُ للمرء أن يظلّ هكذا طوال عمره! إذ التشديدُ والتحجيرُ والتعسيرُ في أمورٍ عمّت بها البلوى ليس من الفقه الذي كان يدرّسُ الراحل أصولَه في جامعة الأزهر.
وعلى المستوى الشخصيّ، فلم أعرف أحدًا احتمل اتِّباعَ الشيخ في طريقته تلك لأكثر من بضع سنوات! هي حماسةٌ مؤقّتةٌ وانبهارٌ محدودٌ بشخصٍ يبدو نموذجًا، ثم لاتلبثُ تلكَ الحماسةُ إلا أن تنطفئ جذوتُها بعد شهور .. وربّما سنوات.
فتلك الطريقة الموغلة في التزهّد والمغالاة في التقشّف والتعبّد لاتناسبُ سوى المتقوقعين المنكفئين على ذواتهم، ممن يعيشون الاغتراب والانعزالية، ويتأبون التفاعل مع الواقع والانفعال به، فهل هذا حقًا هو الإسلام؟
ثمّ إنّ الإسلامَ قد ندب إلى العبادات العملية كـ عيادة المريض، إماطة الأذى عن الطريق، ترشيد استهلاك المياه، الرفق بالحيوان، الإحسان إلى الجار، برّ الوالدين، صلة الأرحام، قولة الحق عند سلطان جائر .. وهلمّ جرّا
فهل يليقُ بالمسلم أن يعتزل الحياة؟ وينعزل عن الأحياء، ويرفض التفاعل مع الأحداث اليومية، وإبداء الرأي فيما يراهُ حوله من المخالفات؟
ولماذا تنحصرُ المخالفاتُ عند القوم في زِيّ المرأة؟ وفي حلق اللحية وإسبال الثوب؟ وفي التقصير في أداء الصلوات، وهو تقصيرٌ لايكاد يسلم منه مسلم، فكلُّنا ذوو خطأ.
كنت أقول: إنّ هذا المسلك يعدُّ تماهيًا مع الفساد الإداري والذممي! وسلبيةً لاتليق، وإلا فأين أنتم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
قالوا: لقد طلّق الشيخُ السياسةَ طلاقًا بائنًا، فالسياسةُ نجاسة! ولايليق بأهل الدين أن يتورطوا في مستنقع الممارسة السياسية التي لاتخلو من ألاعيب وأكاذيب، اخترنا لأنفسنا تعليم الناس أصول دينهم، والحرص على الصلاة والصوم والذكر، فينصلح حالُ الناس ويتغيّر المجتمعُ إلى مانرجوه ونرومه.
صحيحُ أنّ المشايخ/الوُعّاظ/الدعاة لايجدرُ بهم أن ينزلقوا في مزالق الممارسات الحزبية التنافسية، لكنّ اجتناب إبداءَ رأي قد يُزعِجُ سلطةً أو سُلطانًا أو صولجانًا، أمرٌ عجيبٌ لا أظنُّ الإسلامَ يقرُّه أو يقبلُه، فالإسلامُ يكرّسُ العدالة، ويرفضُ التمييز على أساس اللون أو الجنس أو حتى الاعتقاد، كما يحرِّمُ الرشوة والمحسوبية وغلّ الحقوق وأكل الأموال، فكيف لايكون للشيخ رأيٌ في شئٍ من ذلك؟
وأقول .. أولا:
العباداتُ الشعائرية (الصلاة-الصوم-الذكر) ليست في ذواتِها مُرَاد الإسلام أو غايته الكبرى، وإنَّما هي وسائل تتحقق بها الغايات ويحصلُ بها مرادُ الشارع سبحانه وتعالى، وهو التقوى ..
فرُبّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وربّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا طول السهر كما قال رسولُنا صلى الله عليه وسلم
ثمّ إنّها -أي العبادات الشعائرية- تدور حول الإنسان ذاته، بخلاف العبادات العملية التي ينتفع بها الناسُ جميعًا، فالمبالغةُ في الأُولَى تعكسُ الأنانية والفردانية، بخلاف المُبَالغة والمنافسة في الثانية، فتعكسُ العطاءَ والتفاني وبذلَ الخيرِ للغير
وأتساءل .. أيهما أولى وأنفع للإنسانية، وأكثر تحقيقًا لقوله تبارك وتعالى (إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة) ..
من يطيلُ صلاته؟ ويقرأُ قدرًا كبيرًا من القرآن يوميًا؟ أم من يسعى على اليتيم والأرملة والمسكين؟
آلاف الطاقات الشبابية الغضة ممن سجنهم الشيخ أسامة عبد العظيم وأمثالُه في أسر طريقتهم التعبدية الشعائرية، ماذا لو أنهم انطلقوا يزرعون أشجارًا؟
تصوّر معي .. كم شجرةً كانت ستُزرعُ في طولِ البلادِ وعرضِها ليستظلَّ بظلِّها كلُّ مُحتاج
ثانيا: رَوَى أنسُ بن مالكٍ رضى الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي فلمّا أُخبِرُوا كأنهم تقالُّوها، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، و أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»
فهذا الحديث الشريف يغلقُ البابَ بكل وضوحٍ على من يتغالون في العبادات الشعائرية، وعلى تقدير المعارض، فيلزمُهُ أن يقول نسجًا على ذات المنوال: لكنّهم لم يضرّوا أحدًا باختياراتهم! كلُّ إنسانٍ حر في أن يبالغ في العبادة مادام لا يؤذي أحدًا .. هذا يقوم الليل أبدًا! ما الإشكال في ذلك؟ ولكنّ النهي النبويُّ يجيب عليه في وضوح لايخالطه ريب ولايداخله شك.
ثالثًا: زَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ (وكان الرسول قد آخى بينهما)، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا … فَقَالَ سلمان: إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ النبي: صَدَقَ سَلْمَانُ
والتعليق: التغالي في العبادة الشعائرية لابدّ وأن يؤدِّيَ إلى التقصير في جانبٍ آخر من جوانب الحياة، والإسلام منهجُ حياة مُتكامل، لايُعنى بجانبٍ على حسابِ آخر، بل يضع الأمور في نصابها، والنقاط على حروفها.
رابعًا: النفسُ البشريّةُ بطبيعتها ملولة يعتريها الفتور بين الحين والآخر، ولاتكاد تصبرُ على الركعات الطويلة إلا في مواسم الطاعات النادرة كشهر رمضان المبارك ونحوه
أمّا أن يكون هذا المسلك، حال الإنسان على امتداد جميع أيام العام، بلا تردد ولا تحيّر ولا تحيّز لخلاف ذلك، فهذا لايقدرُ عليه إلا قلةٌ قليلةٌ من الناس، والإسلام دينٌ للعوام قبل الخواص، أمّا صبُّ الجميع في ذات القالب فهو محالٌ يدخل في باب التكليف بما لايطاق في كل حال، وإنما في حال دون حال
ولهذا رأينا كثيرا من المترددين على الشيخ أسامة في حال الحماسة والتوهّج، ثمَّ بعدَ أن يتطاول عليهم العمر وتمضي الشهور أو السنون، وتنطفئ جذوةُ الالتزام الأولى، يعود المرءُ لينتكسَ ويرتكس إلى حالٍ أسوأ مما كان عليه قبل أن تضربه سهامُ الانبهار بما يظنُّه أحوال الصحابة وعلوّ همم التابعين
قال الشاعر:
ومُكلِّفُ الأشياء ضدَّ طِبَاعِهَا ** مُتَطَلِّبٌ في الماءِ جَذوةَ نارِ
وإذا رجوتَ المُستحيلَ فإنَّمَا ** تبني الرَّجاءَ عَلَى شَفيرٍ هارِ
خامسًا: الوزن النسبي للعبادات الشعائرية في الإسلام (الصلاة-الصوم-الذكر) أقلّ بكثير إذا ماقورن بنظيره حال العبادات العمليّة كـ أداء الأمانة، وصدق الحديث، وصلة الرّحم، وكفالة اليتيم، وبرّ الوالدين، ورعاية الأرامل والمساكين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش ماظهر منها ومابطن
فقد فُرضت الصلاة على هيئتها التي نعرفها الآن في ليلة الإسراء والمعراج (قبيل الهجرة بعام ونصف) أيّ بعد نزول الوحي بأكثر من عشر سنين!
أمّا الصيام ففُرِض على المسلمين في السنة الثانية للهجرة! أي بعد أكثر من خمسة عشر عامًا من البعثة النبوية الشريفة
ولستُ أدري كيف ومتى ولمصلحة مَن؟ تضخّمت العباداتُ الشعائرية وتعاظم الاهتمامُ بها، بينما تقزّمت -في تصورات المسلمين- العباداتُ العملية وتضاءلت مكانتُها لدرجةٍ صرنا نرى معها من يواظبُ على أداء الصلوات الخمس فيما هو يكذب أو يرتشي أو يسرقُ أو يأكلُ أموال الناس بالباطل .. ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم
سادسًا: يوم سألَ النجاشيُّ (ملك الحبشة) المسلمين الذين هاجروا إليها عن الدين الذي فارقوا فيه قومهم
قال له الصحابيُّ الجليل جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- : أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا
انتهى
تصوّر لو أن جعفر قال للنجاشيّ: أمرَنا ديننا بإطلاق اللحى، وتقصير الثياب، ولثم وجوه النساء بالسواد، والمكوث في المسجد ليلاً ونهارًا نصلّي في خشوع وخضوع، ونعملُ على إتمام حفظ الكتاب العزيز ..
بالمناسبة .. القرآن الكريم نفسُه لم يكن مجموعًا على هيئته التي نراها في المصحف، في حياة النبي (23 عاما بعد البعثة) وإنما جمعه الصحابة الكرام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
====================================
رأي الشيخ أسامة عبد العظيم في البرلمانات
https://www.youtube.com/watch?v=Ky4cewaYvks
====================================
الجواب على معارضات السادة القرّاء واستشكالاتهم
قال المُعارضُ: القرآن الكريم -في سورة المُزَّمِّل- أوجب على رسوله -عليه السلام- قيام الليل، وكان معه في هذا طائفةٌ من أصحابه، فالشيخ إذن يتابعُ السنّة بحذافيرها، فلماذا تنتقد مسلَكَه؟
وجوابي على ذلك من وجوه:
1) سورة المُزَّمِّل مكيّة، وهي من أوائل ما نزل من القرآن العظيم، نزلت قبل أن تُفرض الصلاة على هيئتها التي نعرفُها، ولذلك فقيامُ الليل المذكورَ في السورة ليس على الصورة التي نراها في شهر رمضان المبارك.
2) لانعرف على وجه الدقّة شكل القيام الذي كان يقوُمُه رسول الله أوّل نزول الوحي، ربّما كان شكلا من الدعاء والتبتّل والتضرّع، لكنَّه -قطعًا- ليس على النحو الذي نعرفه حاليًا من ركوع وسجودٍ ونحو ذلك.
3) كان فرضُ القيام على الرسول في أول أمر الدعوة لعلّة احتمال تكاليفها العسيرة {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلا} وهذا مخصوصٌ بالرسول لايمتدُّ إلى غيره، ثُمّ جاءَ التخفيفُ على المسلمين في آخر السورة نفسها {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه} صدق الله العظيم
4) القرآن الكريم نزل مُنجَّمًا (مُجزّءًا على امتداد 23 سنة)، والسور السبع الطوال (البقرة-آل عمران-النساء-المائدة-الأنعام-الأعراف-الأنفال والتوبة) نزلت جميعها في المدينة، ولهذا ففي أول أمر الدعوة، لم يكن نزل من القرآن إلا أقلُّه.
ولهذا فالقياسُ على الآيات الافتتاحية في السورة يعدُّ إسقاطا في أغلاط، والله أعلى وأعلم
قالَ المُعارِضُ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أُثِر عنه أنَّهُ صلَّى بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعةٍ واحدة، فما كان الشيخ يفعله لايخرج عن مشكاة النبوّة
والجواب على ذلك مايلي:
1) نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإطالة بالناس في الصلاة، وهذا النهي عام، يشملُ النافلة كما يشملُ الفريضة، وليس من اللائق أن يُنسبَ للرسول النهىُ عن شئ ثمّ هو يفعله!
2) رواية حذيفة بن اليمان التي فيها أن الرسول صلى بخمسة أجزاء (البقرة – آل عمران – النساء) في ركعة واحدة، لاتستقيم بحال، لأسباب كثيرة منها أن حذيفة لم يكن من الحفّاظ المشهورين، فيعسر عليه التمييز بين البقرة وآل عمران والنساء
ومنها أنّ القرآن نفسُه لم يكن مجموعًا على النحو الذي نراه في المصاحف اليوم، فلم يحدث هذا إلا في عهد أبي بكر الصديق ثم عثمان بن عفان، وندر أن تجد من الصحابة من يحفظ هذه السور الثلاث على الترتيب الذي استقرت عليه في آخر أمر الرسالة (في العهد المدني)، حتى إنّ هناك خلافا بين أهل العلم في ترتيب السور، هل كان هذا الترتيبُ توقيفيًا، أم إنه اجتهادٌ من الصحابة! مما يجعلُ الرواية كلّها مصدر شك!
ومنها أنّ هذه السور الثلاث المذكورة (البقرة-آل عمران-النساء) مدنية، بينما آيات سورة المزمل مكيّة كما أسلفت.
باختصار .. قيام الليل على النحو الذي ابتدعه البعض، أمرٌ لم يعرفه المسلمون سوى في أول عهد الدعوة فقط، ولاشكّ أنّ القيام المقصود ليس الركعات التي نعرفُها اليوم، فلم تكن الصلاة قد فرضت على هذه الهيئة من الأصل
وإلا فالقيام على هذا النحو .. أمرٌ غيرُ عملي، ولايمكن أن تستقيم معه حياة الناس الذين ترتبط أرزاقهم بالاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى أعمالهم، فكيف يُسوَّغُ أن يقوموا الليل يوميًا على هذا النحو؟ ومع تلك الإطالة المبالغ فيها.
قَالَ المُعَارِضُ: إنّه قد أُثِر عن عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- أنّه قرأ القرآن كلّه في ركعةٍ واحدة أوتر بها، فلماذا ترى الصلاة لساعاتٍ طويلة تغاليًا وقد فعله من هو خيرٌ من الشيخ أسامة؟
وأجيب: بخصوص مارُوِي عن عثمان بن عفّان أنّه قرأ القرآنَ كلَّهُ في ركعةٍ أوتر بها ! هذا مُحَالٌ لأسبابٍ لاتخفَى علَى مَنْ عِندَهُ مسكَةٌ من عقل ..
منها أنّ عثمان -رضي الله عنه- لم يكن أحد حُفَّاظ الكتاب الحكيم المشهورين، فكيف يقرأ القرآن كلَّهُ في ركعةٍ وهو لايحفظُه؟
ومنها أنّ الأوراق والطباعة لم تُعرف في زمنهم، وعليه فلم يكن هناك وجودٌ للمصاحف الصغيرة التي يمكنُ حملُها في الجيب، ولك أن تتخيّل حجم المصحف المكتوب يدويًا على الجلود، فهل كان يمكن حملُه للصلاة به في ركعةٍ واحدة؟
ومنها أنّ قراءة القرآن كلّه في ركعةٍ واحدةٍ أمرٌ محالٌ عمليًا، إذ يقتضي الوقوف لساعاتٍ طويلة دون داعٍ لهذا من اتّباع السُّنّة، بل السنّةٌ خلاف ذلك، فقد زجرَ رسول الله من أرادوا المبالغة في العبادة الشعائرية، إذ كان -عليه السلام- يقوم وينام ويصوم ويفطر
ومنها أنّ هذا الأمر لم يؤثر عن رسول الله نفسه، فهل هناك من هو أعبد لله وأتقى له من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ومنها أنّ الصّحابة -رضوانُ الله عليهم- كانوا نماذج عملية، فكان شاغلُهم الأكبر حمل رسالة الإسلام بمحتواها الأخلاقيّ والعمليّ لتبليغها إلى الناس، أمّا المبالغةُ في التعبد والتزهّد والتبتّل فلم تكن طريقتهم ولا طريقهم
ومنها أنّ الإسلام نفسُه لايعترفُ بالرهبنة، ولايعرفُ الانقطاع عن الدنيا، والانحصار في المسجد، وإنّما ركّز على العبادة العملية، كعيادة المرضى، وإماطة الأذى عن الطريق، والإحسان إلى الجار، وأداء الأمانة، وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، والسعي على الأرملة والمسكين، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. الخ
وقد نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني تلك الحكاية (الرواية) عن محمد بن نصر المروزي، الذي ذكرها -بدوره- في كتابه “السنة” بغير إسناد عن السائب بن يزيد
والمروزي -كما هو معلوم- وُلِد سنة 202 هـ في بغداد، أي أنّ بينه وبين الراوي الأول (السائب) نحو قرنين من الزمان ! ولولا الإسناد لقال من شاء .. ما شاء!
هذا من جهة السند، وأمّا من جهة المتن، فهي طافحةٌ بالمبالغة الواضحة، فقراءة جزء واحد من القرآن (حدرًا) يستغرق نصف ساعة على أقل تقدير!
وعليه .. فقراءة القرآن كله يستغرق خمس عشرة ساعة على الأقل!
هذا على تقدير أنّ القارئ لم يأكل ولم يشرب ولم يكن في حاجة إلى قضاء حاجته! ولم يخرج منه ريحٌ يفسد وضوءه وبالتالي صلاته كلها
ثمّ كيف وهو يقف على قدميه طوال هذه المدة التي لايحتملها بشر؟ وفي صلاة يلزم فيها الخشوع والتبتّل، مع النهي عن مدافعة الأخبثين!
لاشكّ أنّ هذا محالٌ عمليًا بإجماع العقلاء
ثمّ كيف والرسول صلى الله عليه وسلم (أعبد الناس لله وأتقاهم له) لم يفعل ذلك! ولم يأمر به! ولم يندب إليه! فأين من نقل هذه الرواية من كلامهم عن البدعة التي لم يفعلها رسول الله؟
قالَ المُعَارِضُ: صحيحٌ أنّ رسول الله نهى عن الإطالة في الصلاة، لكنّ هذا كان لعلة وجود المريض والضعيف وذي الحاجة بين المصلّين، والحكم يدور مع العلة وُجُودًا وعَدَمًا، فمن كانوا يذهبون لمسجد الشيخ أسامة، كانوا يعرفون أنه يطيلُ الصلاة، فهم إذن راضون لم يشتكِ منهم أحد، فلماذا تنهاهم عن شئٍ كانوا يحبونه ويسعون إليه بمل إرادتهم؟
فأجيب قائلا: أمّا دعوى زوال الحكم (النهي عن الإطالة في الصلاة) بزوال العلّة (التواطؤ على الإطالة)، فليس صحيحًا، ومن درس علم أصول الفقه يعرفُ ضوابط هذه القاعدة وشروطها ومنها التفريق بين العلّة وبين الحكمة، وشروط العلّة ومنها الاطّراد وأن تكون وصفا ظاهرا متميزا عن غيره .. الخ
وقد ظنّ بعضُهم -نسجًا على منوال الشيخ- أنّه مادامت المساجد موفورة، والشيخ كان معروفًا عنه أنّه يطيل، ومن يذهب إليه يذهب وهو يعرف ذلك، فقد زال الإشكال!
وهذا اضطرابٌ منهم في تعليل المسألة برُمَّتِها، فهل كان رسول الله الذي أوتي جوامع الكلم يعجزُ عن أن يقول قولهم؟
فعلى هذا التقدير الذي قدّرتموه: فقد كان الأولى بالرسول -عليه السلام- أن يقول: خففوا في بعض المساجد دون بعضها!
أو
لاتطيلوا إلا إذا كان المأمومون متفقين على ذلك مع الإمام!
أو
أستثني من نهيي هذا بعض من يحبون التطويل طالما ذهبوا إلى الإمام المعروف عنه الإطالة بمحض إرادتهم
لكنّ الأمر النبوي كان صريحًا واضحًا: أيّكم صلى بالناس فليخفف ..
فهل إذا اتفق بعضُ المسلمين على مخالفة الرسول في نهيه عن تعمُّدِ الإطالة في الصلاة، هل يعدُّ ذلك مُسوِّغًا لزوال الحكم؟
بل هو تواطؤٌ على أمرٍ منهيٍ عنه!
وهل العلّةُ وجود المريض والضعيف وذي الحاجة في تلك الصلاة دون غيرها؟ أم احتمالُ وجودهم ووجود أمثالهم في كل صلاة؟
وهل إذا لم يوجد مريضٌ ولا ضعيفٌ ولا ذو حاجةٍ زالَ النهي؟
أم المُرَادُ ألا ينفق المسلمون وقتًا مُبالغًا فيه في الصلاة وألا يزايد بعضُهُم على بعضٍ بالتطويل في العبادة؟ والاستطالة بكثرة الصلاة والصوم!
فيتغالى بعضُهُم على بعض ..
ويتعالى بعضُهم على بعض.
هذه هي العلّةُ التي يظنُ بعضُهُم أنهم عرفوها على خلاف الحق والحقيقة، وقد رأينا من أتباع الشيخ من يزايدُ بكثرة الصلاة والصوم، ويستطيلُ على المسلمين ثمّ لايلبثُ بعد سنواتٍ فيترك هذا التديّن الشكليّ برمَّته، بعد أن تزول عنه فورة الحماسة الأولى!
ولماذا لايطبقون كلامهم هذا بخصوص دوران الحكم مع علّته على اللحية؟ التي لم تعد في زمننا مما يتميّزُ به اليهود والنصارى (دينيًا) عن المسلمين، فصار الأمرُ بتوفيرها مع حلق الشارب منتفيا لانتفاء علة مخالفة اليهود والنصارى فيما يتميّزون بها دينيًا عن المسلمين
ورغم هذا فقد كان الشيخُ -مثل غيره من السلفيين- ينهى عن الأخذ منها مُطلَقًا! بل ويعتبرُها حدًا فاصلاً بين الالتزام والانحلال! وبين التديّن والتسيّب كما ذكرتُ آنفًا ..
أتركُ الجواب على هذا السؤال غير العضال، لهم قبل أن يكون لغيرهم من المسلمين