
موسم صيد الأسماك
أحمد محمد مغاوري قشوة
كان ذلك في منتصف فبراير ، وذلك قبل يوم عيد الحب ، قابلت أحد الأصدقاء ممن يكبرونني سنا ونشأت بيني وبينهم علاقة ألفة وصداقة ، فقال لي :
– دعك من عيد الحب ذاك ، فلا يدخل مزاج أمثالنا ، تعال معي غدا نذهب للصيد .
الصيد .. كم أحببت صيد السمك في صغري ! على الرغم من كرهي لأكل السمك ، فوافقته ، فقال لي :
– إذا فموعدنا غدا عصرا .
وجاءت ظهيرة اليوم التالي ، وكنت في بيتي ، فسمعت رنين الجرس ، فذهبت لأفتح ، ووجدت فتاة تقف مع علبة حمراء مزينة كُتب عليها (valentine day) ، فتعجبت بشدة ، ووجدت الفتاة شبه مصدومة من رؤيتي أفتح الباب ، فبادرتها ما نسيَتْه :
– السلام عليكم .
فردت :
– وعليكم السلام .
أعطتني الحقيبة الحمراء قائلة :
– أعطِ هذا لقريبك .
فهمت الآن ، فقد كان لي قريب قد خطب فتاة من نهاية الحارة ، وقد أرسلت الفتاة أختها بهدية عيد الحب له ، ورحلت الفتاة ولم تزل دهشتها ، ففتحت الحقيبة ، فوجدت قلبا أحمر اللون كبير الحجم له عينا إنسان وفم ويدان وقدمان ، وبه شيء غليظ الملمس بداخله ، ضغطت على ذاك الشيء الغليظ ليصدر القلب صوتا عاليا :
– i love you .
وفزعت من الصوت الصادر حين صدر ، ولعنت حينها عيد الحب ذاك ، وتركت القلب لقريبي بغرفته ، وصليت العصر ، وذهبت إلى صديقي الذي سأذهب معه للصيد ، فوجدته كما أجده دائما مبتسم الثغر مشرق المحيا ، فقال لي :
– أمستعد للصيد ؟
– إن شاء الله .
– حسنا سآتي بالصنارة من الداخل .
ودلف البيت ، وأخذ مفتاحا من على مكتبه ، وخرج لي قائلا :
– هيا بنا .
سألته :
– أين الصنارة ؟
– سنذهب لجلبها .
واتجهنا إلى الطريق العمومي حيث تسير فوقه السيارات ، ولم يكن التوكتوك قد انتشر بعد تلك الأيام في الطرق ، واتجهنا نحو موقف السيارات الذاهبة لميدان الحادثة ، واتجهنا نحو سيارة بعينها ، كانت متهالكة ذات لون أخضر باهت قد ظهر الصدأ في بعض الأجزاء منها ، وركب صديقي في مكان السائق وأنا بجانبه ، وفتح باب السيارة لمن يريد الركوب من الناس ، وركب الناس بالفعل ، وأغلق الباب ، وتحرك بالسيارة نحو ميدان الحادثة ، وقال لي :
– أنظر إلي وأنا أقود حتى تتعلم قيادة السيارات .
ولكنني لم آبه للقيادة أبدا ، فلم أعره انتباهي جيدا ، وأخذ الناس بالخلف يعطونني نقود الأجرة التي كانت نصف جنيه فقط للفرد لصغر المسافة بين قريتنا شلقان وميدان الحادثة ، فقمت بعدّ النقود ، وأعطيتها لصديقي السائق ، وكان الشباب يظهرون أمام أعيننا منهم من يصطحب حبيبته لنزهة سرية على الأرجح ، وآخر يحمل حقيبة كالتي آتتني في الصباح على الأرجح تحوي قلبا أحمر اللون أيضا ، وأخرى تجلس على المصطبة تبكي حالها لأنها لم تجد من يعبرها بكلمة واحدة ، وهناك من هم مثلي وصديقي العاذب لا يفكرون في مثل تلك الترهات وقد انشغلوا بتحصيل قوت يومهم . سألت صديقي بعد نزول الركاب بالحادثة :
– متى نذهب للصيد ؟
– ولكن ها نحن نصطاد الآن ، ألا تشعر بذلك ؟
– ولكننا نصطاد الزبائن لا السمك ..
– ولكنهم كالسمك أو أقل .. تمعن في كل راكب فستجد خلفه قصة تسليك طوال يومك تجعلك لا تمل كما تتمنى أن تجد خاتما ببطن السمكة .. انتظر مكافئتك بعد أن انتهي .
وجاء مزيد من الركاب ، ومنهم فتاتين قد امتلأ جسديهما بالدهون ، وكان التبرج حليف وجهيهما ، وسألتني إحداهما تظنني السائق :
– أيمكنك إيصالنا إلى جيم كتكوت .
فناديت صديقي أن يحدثهم ، فسمع مطلبهم خطأً ، وتعجب ، وسأل الفتاة :
– وما يكون جمجم كتكوت هذا ؟
فأصلحت الفتاة :
– أقصد جيم كتكوت .. صالة رياضية .
– آه .. حسنا سأدلك عليها بشلقان إنها قريبة .
ومر من أمامي ذلك الرجل الذي رضي بمهنة المعلم ، ورضي أيضا بزوجته المعلمة الحسناء ، وذكر لي صديقي كم كان رشيقا قبل زواجه وها هو الآن تدلى بطنه منه . وارتحلت السيارة بنا عدة مرات بين شلقان والحادثة حتى أذّن المغرب ، فترك صديقي سيارته بالحادثة لأخ له جاء ليكمل المهمة من بعده ، وسرت أنا وهو مشيا ببطئ نحو شلقان ، فقلت له :
– صدقني لقد كرهت الصيد وعيد الحب .
ضحك ، وقال :
– أعلم أن اليوم لم يسر كما أردت يا صديقي ، ولكن انتظر حتى ينتهي قد يتغير مزاجك .
وانعطف عند شارع المدرسة الإعدادية ، فسألته :
– إلى أين سنذهب ؟
– هيا سنذهب لشوي السمك الذي اصطدناه .. ألم ترد صيد السمك ؟
– ولكننا لم نصطد شيئا !
– ولكن ستأكله .. تعال معي .
وذهبت معه نحو ذلك البيت ، ورن الجرس ، فخرج لنا الشيخ ، وكنت أعرف الشيخ ، وأحببته منذ الصغر حيث كان صديقا لوالدي رحمه الله ، ولم أكن أعرف أن هذا منزله ، فرحب بي الشيخ كثيرا متهلل الوجه شاكرا صديقي لجلبي معه ، وصعدنا إلى سطح المنزل ، وجاء بضع من خيرة الشباب منهم ذلك المهندس من كلية هندسة شبرا الذي عرفته طالبا حينها ، ولكنه اليوم بروفيسور بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا ، ومهندس الكهرباء الآخر الذي كان يحمل معه كتاب عن الزواج حيث كان مُقدما عليه ، وثالث قصير واسع الضحك . وأتى الشيخ بالموقد الذي ألقى بقلبه الفحم ، وجاء ابنه الصغير بطبق واسع حوى صدور وأوراك الدجاج المتبلة ، وكان هذا هو السمك الذي يقصده صديقي ، فقد علم عدم حبي للسمك وحبي للدجاج ، وكانت خدعة طيبة منه ، وشُوي الدجاج ، ورائحته الزكية تنتشر بالشارع كله حتى ميدان الحادثة ، وأكلنا حتى امتلأت البطون واُتخمت ، لدرجة أن الشيخ أراد إعطاءنا درسا في الزهد ، وجلسنا بعدها نتبادر الأحاديث الزكية ، ونتذكر المواقف الطريفة ، وكم كانت جلسة جميلة جدا !
ومرت الأيام .. وتفرق رجال تلك الجلسة ، فأصبح كل منهم تشغله حياته .. أما اليوم ، فكم نتمنى أن تعود بنا الأيام ! فنقضي جلسة كهذه مرة أخرى ، ولكن للقدر رأي آخر يفرضه بعد طرحه .
تمت بحمد الله
أحمد محمد مغاوري قشوة