مصدرية القرآن بين السيوطي ونصر أبو زيد

بقلم : حسام الدين عوض
جلال الدين السيوطي هو الإمام والمفسر واللغوي الكبير ، صاحب كتاب (الإتقان في علوم القرآن) و(الأشباه والنظائر) في الفقه الشافعي ، يقول عن نفسه: “رُزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع” أ.هـ
وُلِدَ السيوطي في القاهرة في القرن التاسع الهجري ، وتُوُفِّي فيها عن عمرٍ يُناهزُ الستين عاماً بعد أن ارتحل إلى الحجاز والشام واليمن والهند والمغرب الإسلاميّ ليطلب العلم وليعلَّمَه للناس ، وبعد أن أثرى المكتبة الإسلامية بما يربو على الخمسمائة مصنَّف في شتى علوم الشريعة واللغة.
وأمّا الدكتور نصر حامد أبو زيد فقد وُلِد في طنطا عام 1943م ، وتوفي في القاهرة عام 2010م إثر عودته إلى مصر من منفاه الاختياري في هولندا بعد أن حكمت محكمة مصرية بالتفريق بينه وبين زوجته باعتباره مرتداً عن الإسلام!! وذلك في عام 1995م.
تعود أحداث هذه القضية المؤسفة التي شغلت الأوساط الثقافية والفكرية المصرية آنذاك ، إلى اتهام الدكتور عبد الصبور شاهين الأستاذ بجامعة القاهرة والداعية الإسلامي المعروف -اتهامه نصر أبو زيد- بالزندقة ، فضلاً عن رفض اللجنة التي ترأسها شاهين ترقيته إلى درجة أستاذ.
من أبرز كتب الدكتور نصر أبو زيد : الاتجاه العقلي في التفسير (دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة) ، فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي) وقد كان هذا الكتاب هو رسالته للدكتوراة في كلية الآداب بجامعة القاهرة ، نقد الخطاب الديني ، التفكير في زمن التكفير ، مفهوم النص (دراسة في علوم القرآن) ، كما كتب عشرات المقالات التي نشرت في صحف مصرية ودولية ، وحصل على أكثر من جائزة على رأسها جائزة مؤسسة (ابن رشد للفكر الحر) والتي تتخذ من برلين -ألمانيا الاتحادية مقراً لها.
من بين كل ماكتبه وسطره وقاله نصر أبو زيد ، فإنَّ مايعنيني كلامُه الخطير المتعلق بمصدرية نصوص القرآن العظيم ، يقول في مقابلةٍ أجراها معه الصحفي ناظم السيد ونُشِرت في صحيفة “بيان اليوم” ثم في موقع مَغْرِسْ الإخباري على الإنترنت بتاريخ 09 يوليو 2010 مايلي:
سأله المحاور: هل هذا التواصل غير اللغوي ما بين الوحي الإلهي والنبي محمد الذي تقول به هو امتداد لمفهوم السيوطي حول الوحي؟ إذ اعتبر أن الوحي نزل على النبي كمعنى وليس كلغة؟
فردَّ أبو زيد قائلاً : هذا أحد الآراء طبعاً. تصوّر النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان ساعي بريد، هو تصور فقير جداً، وخاطئ تاريخياً” أ.هـ
وهنا ينبغي على القارئ الحاذق أن يطرح سؤالاً تأسيسياً ؛ من أين جاء المحاور بأنَّ الإمام السيوطي قال ذلك الكلام؟ وكيف وافقه على دعواه تلك باحثٌ كبيرٌ في قيمة وقامة الدكتور أبو زيد كما يصفه بذلك مريدوه؟ فلنراجع إذن كلام السيوطي من كتابه الإتقان في علوم القرآن (صفحة 544 و 545) ؛ يقول السيوطي مايلي:
“وقال الجويني كلام الله المنزل قسمان قسم قال الله لجبريل قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول افعل كذا وكذا وأمر بكذا وكذا ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبي وقال له ما قاله ربه ولم تكن العبارة كما يقول الملك لمن يثق به قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال فإن قال الرسول يقول الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند تتفرق وحثهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة ، وقسم آخر قال الله لجبريل اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول اقرأه على فلان فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا ، قلت: (الكلام هنا للسيوطي) القرآن هو القسم الثاني والقسم الأول هو السنة” انتهى كلام السيوطي من المصدر المذكور.
التعليق: ذكر السيوطي إجمالاً طويلاً فيما يتعلق بلفظ القرآن ومعناه وأقوال الناس في إنزاله (بعضها قاله الفلاسفة وبعضها الآخر قرره المحدثون والأصوليون) ، ثم نقل كلام الإمام الجويني الذي فيه أولاً وثانياً ، فقرر السيوطي أنَّ القرآن هو النوع الثاني (وفق كلام الجويني) ، وأن السنة هي النوع الأول.
وعليه فإنَّ هذا الجواب المُجمَل من الدكتور نصر يشتمل على خطأين علميين جسيمين: الأول: قولُهُ إنَّ قيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإيصال اللفظ الموحى إليه كما هو دون تدخل من جانبه ، هو عمل ساعي البريد! (وفيه خلطٌ مبينٌ بين القرآن وبين السنة ، ثم هو يفتح الباب للتشكيك في قدسية نصوص القرآن الكريم نفسه)
والثاني: أنه ينسب للسيوطي مالم يقله! فالسيوطي عرض الأقوال عرضاً مجرداً (الفاسد منها والصحيح) ، ثم ذكر رأي الإمام الجويني في مقابل رأي الفلاسفة وغيرهم ، لينتصر في النهاية لرأي الجويني ، فكيف يقال إنَّ قول من عارضهم الجويني هو نفسُهُ قول السيوطي؟ وهل لهذا علاقةٌ بالأمانة العلمية؟ أم -رُبَّما- بسوء الفهم والاستنباط والتأويل!
قبلها وفي حوارٍ آخر أجراه معه ‘محمد علي الأتاسي’ ونُشِرَ على موقع “الحوار المتمدن” على شبكة الانترنت بتاريخ 17 أكتوبر 2002م ؛ قال له المحاور: لنعد الى السؤال الأساسي فأنت من خلال السيوطي وضعت يدك على جوهر المشكلة ، ومع ذلك لدي احساس أنك لا تزال متردداً في الذهاب بالاسئلة الى منتهاها …. ؟”
فيجيب د.نصر قائلاً: “لا استطيع أن أنكر الذي تقوله. التردد موجود في داخلي ، لكنه لا ينبع من خوف على شخصي ، بل يأتي من كونك تعمل في اطار انموذج (براديغم) ثقافي تحاول اختراقه” أ.هـ
التعليق: نصر أبو زيد يجيب على نصر أبو زيد ..! بل ويجيب عن كل من نقل نصوصه الموهمة ليعتذر بها عنه! فهو يقرر بكل وضوحٍ أنَّ التردد الموجود بداخله هو مايمنعه من التصريح برأيه والبوح بكل ماعنده! (ولا أدري لماذا كان يستخدم مساحيق تجميل أفكاره في هذا التوقيت!) ثمَّ ماهو ذلك الذي عنده ولمّا يبُـح به؟ يفسره كلامه التالي .. حيث قال بعدها مباشرةً:
“ونحن حتى هذه اللحظة نعمل على النظام المعرفي الذي أسسه الشافعي في القرن الثالث الهجري. هذا النظام المعرفي قائم على ان النص مقدس لأنه لغة ورسالة ليسا من صنع البشر ، ومحاولة اختراق هذا النظام معناها أنْ تبيّن أنه إذا كانت الرسالة إلهية فان اللغة ليست إلهية بل هي بشرية ، وهذا ليس شأن القرآن وحده بل شأن الكتب المقدسة كلها.” أ.هـ
التعليق: كلامه هنا لايخلو من أغاليط ومغالطات ، وذلك من وجوه:
1. يقرر أنَّ الإمام الشافعي هو الذي أسس فكرة قدسية “النص” !! وهي خطيئةٌ تاريخيةٌ ومنهجيةٌ لايغسلُها ماءُ البحر
2. ثم هو يقرر بعبارة ليس هنالك ماهو أوضح ولا أصرح منها حين يقول: اذا كانت الرسالة إلهية فان اللغة ليست إلهية بل هي بشرية.
3. ثم يعود ويقول: وعليه فإنَّ صياغة الرسالة انسانية.!
فإن كان هذا الكلام الواضح الصريح القاطع ، هو كلام رجل كان يعاني حالة تردد في البوح بكل مايريد البوح به؟ فما الذي كان لازال يخفيه إذن؟ أتركُ الجواب للقارئ!
الخــلاصة: أتصوَّرُ أنَّ ماحدث مع الدكتور نصر أبو زيد من تجاوزٍ أُدخِلَ فيه القضاءُ المصريُّ طرفاً ، لم يكن تصرفاً حكيماً ولا حصيفاً بل ولاأخـلاقياً! فليس من حق أحدٍ أن يحكم بالكفر على من ظل يردِّدُ كلمة التوحيد حتى آخر عمره ، ثمَّ إنَّ هذا التصرف الكيدي الطائش قد صنعَ منه بطلاً على خلاف ما أوحت به بعضُ أطروحاته التي لم تخلُ من الأخطاء العلمية ، والمجازفات غير الموضوعية.