أدب و ثقافةروايات و قصص

مذكرات ضابط جيش( مع صفاء كل سبت)

صفاء العجماوي

هذه أول مرة لى فى عالم الكتابة ،فما أنا الا ضابط جيش ,أحيا بين الرمال و الجبال ،لا أعرف معنى القلم و الأوراق ,الا فى الأعمال الأدارية ،فأنا لا أعرف سوى السلاح ،و رفاقى هم الجنود و الضباط .و لذلك كان للأمساك بالقلم هذه المرة نكهة خاصة ،فأنا الذى لا أجيد أستخدام القلم سأكتب عن نفسى ،عن حياتى ،عن مشاعرى ،عن أيام فارقة من عمرى

ضابط مصرى

هذه الورقة المئة التى أكتب فيها سطرين ,ثم أمزقها شر ممزق ,و ألقيها فى سلة القمامة ,و أنا غير راضي عنها .أنظر الى السلة بأسى فبالتأكيد سيزيد جامع القمامة أجره هذا الشهر ,و ستطردنى زوجتى من المنزل ,و تخبرنى بأنه يجب علي العودة الى ثكنتي ,فقد حولت الغرفة الى ما يشبه …….. ,لا داعى للتشبيه ,فحتما سترى كلماتي ,و ستشيط غضبا . سأترك الكتابة قليلا حتى أستقر على ما سأكتبه .كنت أظن أن الكتابة شىء سهل ,لا أعرف كيف أمكن لزوجتى أن تصبح كاتبة ذات جمهور كبير نسبيا ,الآن تأكدت أنها ستقتلنى .ماذا كانت تفعل عندما تفكر لتكتب ؟ , أجل كانت تشرد متطلعة الى الأوراق كثيرا ,و لكن هذا لا يجدى معى ,لنجرب السقف بدلا من الأوراق ,فربما جاءنى وحى من الطابق العلوى .لا أظنه يجدى كذلك ,سأستلقى قليلا لأرتاح ,يبدو أنه حل جيد ,فقد بدأت الأحداث ترتب نفسها داخل عقلى ,خمس دقائق تركيز ,ثم بسم الله الرحمن الرحيم لنبدأ .

الأرجاء
لا يوجد داعى لذكر أى تفاصيل قبل هذا اليوم ,فعلاقتى بدأت فعليا بالجيش فى ذلك اليوم الذى لا يوجد وليد فى مصر لا يعرفه ,أنه اليوم الذى يقوم الشاب قبله ,و لمدة أسبوع بالصلاة و الأبتهال الى الله ,ليحصل على تأجيل كى لا يدخل الجيش ,حتى أن البعض يأتى بتوصية من بعض المسئولين ليتحصلوا على التأجيل ,و قد ذهب البعض الى نذر النذور فما أن يحصلوا عليه حتى يذبحوا الذبائح ,و يقيموا الولائم ,و يرقص الأهل طربا بنجاة الشاب ,و حصوله على التأجيل .لقد تحول الألتحاق بالجيش لتأدية الخدمة العسكرية من فخر يتكالب عليه الشباب قبل حرب أكتوبر ,ليصبح هما ثقيلا نتهرب منه جميعا ,فنحن لا نراه الا حبسا للحريات ,و حرمانا من الحياة ,و تقيدا لسنوات العمر دون أى فائدة سوى تعطيلنا عن بداية حياتنا العملية ,و أصبح الجيش الشماعة التى نلقى عليها تبعات فشلنا فى الحصول على الوظيفة .أنه سجن نأمل ألا ندخله ,كابوس ثقيل لا ينتهي,هذا كان شعورى وقتها ,و شعور الجميع ,و لكن لا تلومونا فما كنا نسمعه ممن سبقونا عن ويلات مراكز التدريب ,و الوحدات التى يلحقون بها ما يشيب له الولدان ,و يجعلنا نفعل المستحيل حتى لا ندخل ذاك الجحيم .
دعونا من ذلك الآن ,و لنعد بالذاكرة الى ذلك اليوم منذ أكثر من خمسة أعوام خلت ,كنت قد أنهيت دراستى الجامعية فى تلك الكلية العلمية ,و أحلم بالبدأ فى مشروعى الخاص ,و الذى أخذت فى التحضير له من أيام الجامعة بمعاونة أصدقائى ,فحلم الوظائف الحكومية أو الخاصة بعيد المنال ,بل هو ضرب من المستحيل .كنت أحلم بمشروعي ليل نهار ,يسرقنى النوم منه سويعات قلائل ,لأهرب من النوم لأضع الدراسات الخاصة بمشروعي مع الأصدقاء ,و لأننى أتحرق شوقا لبدأه فكنت أدعوا الله بأن أحصل على تأجيل و الذى يعقبه تأجيلات حتى يتم أعفائى ,كما جرت العادة ,حتى يتسنى لى البدأ فيه.
فى عشية سفرى الى منطقة التجنيد التابع لها ,جفانى النوم ,و عششت الهواجس فى عقلى ,و أمتلأ قلبى بالقلق ,و أصبح السؤال الذى لا يفارق مخيلتى ,و لا أجد له إجابة ,ماذا لو جندت ضابط أحتياط ؟, ماذا سأفعل ؟, أنها ثلاث سنوات كاملة .كاد التفكير أن يعصف بعقلي ,و أصبح الخوف رفيق ليلتي ,فأخذت أبتهل الى الله أن ينجينى من ذلك المصير المرعب .لم أكن الوحيد فى منزلنا الساهر برفقة القلق ,فقد كانت أمى تتفقدنى كل خمس دقائق لتطمئن أنى نائم ,و على الرغم من تظاهرى بالنوم عند شعورى بقدومها ,ألا أنها كانت تعلم بأنى أتسامر مع القلق فى ليلة طويلة مسهدة ,مأفون من يظن أنه يمكنه خداع قلب أمه ,فهى دائما تعلم ,لقد كانت من أطول الليالى التى مرت علينا ,و أكثرها سوادا .
فى الصباح حاولت التظاهر بأنى قد نلت قسطا وافرا من النوم اللذيذ ,و لكن نظرة واحدة فى عيني أمي جعلتنى أنسى كل مظاهر التظاهر ,و أكن على طبيعتى .كانت عيناي بلون الدم محتقنة ,و حولها رسم القلق حلقاته السوداء الداكنة ,حاولت أخفاء وجهى عن الجميع ,و لكن رتبات أمى على كتفى جعلتنى أنظر اليها لأستمد منها الأطمئنان ,كانت رتباتها تعنى لي الأمان ,مالت على أذنى ,و قالت لى:” لا تقلق أن قضاء الله كله خير “.
لا أدرى كيف كانت تلك الكلمات هى مفتاح ذلك الباب السحرى الذى غمرنى بالهدوء و الأطمئنان ,و لأول مرة أبتسم لها ,و أتناول أفطارا قويا أعدته لي خصيصا لأحتمل عناء ذلك اليوم الشاق .
كانت رحلة السفر التى كنت أظنها معاناة – فمن سيارة أجرة الى قطار ,ثم سيارة أجرة آخرى حتى منطقة التجنيد- و التى ظننتها قطعة من الجحيم ,هى النعيم بعينه مقارنة بما وجدته فى منطقة التجنيد التى بنيت خصيصا فى قلب الصحراء لتصبح مدينة الرمال الحارقة ,فالهواء كريح السموم ,و الشمس تلفح الوجوه فتشويها ,أما العرق فحدث و لا حرج فهو شلال يحرق الجسد و لا يرطبه ,يتبخر بسرعة تكونه ,تاركا الأملاح كأشواك مغروسة فى الجلد .كانت المسافة من باب منطقة التجنيد لأقرب مبنى ,كالمسافة بين قطبى الأرض نجتازها فى شمس مسلطة على الرقاب دون ماء ,ليبلغ منا العطش بعد عدة خطوات ,و نبدأ فى اللهاث بصوت مسموع .ما أن وصلنا الى ذلك البناء حتى كدنا نلفظ أنفاسنا ,و أخذ الشباب المتحلق حول النافذة لأنهاء معاملاته الى أسعافنا ,و الجالس خلف النافذة لا يكلف نفسه بألقاء نظرة خاطفة علينا ,فقد أعتاد تلك المشاهد .أخذنا نسترد أنفاسنا ,و شكرنا الشباب الذى تحلق حولنا للمساعدة ,و أخذنا أماكننا فى الطابور الطويل ,مما أعادنا الى أتون الشمس المحرقة .كأنت الثواني تمر علينا كأنها عقود ,و كنا نشعر بأننا نتقدم ببطء شديد ملل لا يقطعه سوى قدوم هؤلاء الاهثين ,لنقوم بأسعافهم قبل الأنتظام فى أماكننا مرة أخري .ما أن أقتربت من النافذة حتى أخذ الجالس أوراقي ليراجعها سريعا ,و يأمرني بالأنتظار مع الجمع الغفير المتحلق حول مبنى منخفض لا نكاد نميز منه شيء ,سوى تلك اللوحة التى كتب عليها مقصف ,حتى يتم النداء علينا .كان ذلك المقصف على مسافة فى الشمس كالسفر بسلحفاة الى زحل ,نظرت الى رفاقي الذين أنضموا الي بحزن ,ثم شرعنا فى الركض للوصول الى ذلك المقصف علي أمل شرب جرعة ماء ,و تناول ما يسد رمقنا .
ما أن وصلنا الى مسافة غير قريبة منه حتى وجدنا جحافل من البشر كأنه يوم الحشر تتزاحم عليه لشراء زجاجة مياة ,أو قطعة بسكويت جاف . نظرت الى من حولى بقنوط شديد ,و أخذت أحدث نفسي بصوت مسموع ” لما كل هذا الهوان ؟ ماذا أفعل لتناولة جرعة ماء فى تلك الصحراء المقفرة؟ لقد جففتني الشمس فأصبحت كالقديد ”
ضحك رفيقى ساخرا ,و أخذ يربت على كتفى ,ثم وقف جادا و قال :” لا تخف يا صديقى ,سأتيك بالماء و بعض الطعام ,و لكن أنتظرونى عند ذلك العمود الى كتب على لوحته المقصف ,حتى لا نضيع من بعضنا ”
نظرت له بضيق ,و قلت “ماذا ستفعل ؟هل تريد الأنتحار ؟أم ستزاحم هذه الجحافل ؟”
رد صديقى بتبرم :” ماذا يهم ؟ أنتظرني كما أخبرتك ”
ذهبت أنا و بعض الرفاق حيث أشار ,و ذهب هو و البقية نحو تلك المعركة الضروس ,فأخذت أنا و رفاقي ندعوا لهم بالسلامة و العودة غانمين .بعد ساعتين أو أكثر كنت على وشك الأغماء من فرط الأعياء و الجفاف ,و رفاقى لم يعودوا بعد ,و لم يعد لي القدرة على الحديث أو أن أظل منتصبا ,فأنزلقت ببطء دون منى لأفترش الرمال تحتي .أقبل رفاقى و بحوزتهم خمس زجاجات مياه غازية و علبة بسكويت و عشر زجاجات مياه .

نجوم

من أنا ؟. لا يهم الأسماء ، لا يهم الأشكال ، فيكفى أن تعرف أنى ضابط فى جيش مصر ، تملك حبها من خلاياى ، أضحى بكل ثانية من عمرى فداءا لها بكل رضى ، أسعد بأنى أنتمى لها ، و أنى أبنها ، و قلبى يخفق بأسمها

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
زر الذهاب إلى الأعلى