
* محكمة
بصوت جَهْوَرِي ـ رجَّ أركان القاعة ـ صاح حاجب المحكمة بتلك الكلمة السحرية، التي ما إن سمعها الجميع حتى هبوا ـ كالملسوعين ـ واقفين، احترامًا للقضاة القادمين من صدر القاعة إلى داخلها. بكلمة من القاضي، يتبعها نفس الكلمة السحرية من الحاجب، و بذات القوة يجلس الحضور.
أشار القاضي إلى الحاجب لينادي على القضية لتبدأ الجلسة. نودي على شاب لوحت بشرته الشمس، منتفخ العينين، بياضهما اصطبغ بالحمرة من كثرة البكاء، ممشوق القوام، طويل القامة، ذو عضلات بارزة تلائم شخص رياضي، ينتفض مع بكائه. أخذ يسير مترنحًا كالسكران حتى وصل إلى منصة الشهود، يقف وهو يهتز مثيرًا شفقة الحضور. سأله القاضي برفق عن اسمه و سنه، و علاقته بالجاني و المجني عليهم، بعد أن أقسم اليمين.
مسح الشاب دموعه المنهمرة كالشلال بظهر يده، آملا توقفها، ثم التفت إلى قفص الاتهام، الذي يجلس داخله رجل في الخمسينات من العمر، قاسي الملامح، ينظر إلى الشاب في غضب جارف، الذي يجيب بصوت قتله الحزن قبل أن يغتاله البكاء :”اسمي آدم عصمت، أبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا. الجاني هو أبي، و المجني عليه هو ابني الوليد”.
ضجت القاعة بالأصوات الاستنكارية، مما دفع القاضي أن يطرق بمطرقته مدة خمس دقائق كاملة، حتى عادت القاعة إلى سابق عهدها، و التزام الجميع الصمت. نظر القاضي إلى الشاب مشفقًا، سأله أن يحكي قصته.
رفع آدم عينين بلون الدم، ينظر بهما إلى المتهم، ثم أعادهما إلى القاضي، و أخذ يقص عليه.
“سيدي القاضي، تبدأ حكايتي منذ عامين، عندما أحببت فتاة تكبرني بخمس سنوات. كانت حياتي و بهجة قلبي. كنت أرى شروق الشمس في عينيها، و ندى الورد في وجنتيها، و سحر الشرق في ابتسامتها. عندما تخجل تسرق قلبي، عشقتها، بل عشقت الأرض تحت قدميها، طلبت منها الزواج، فرحبت مسرورة. لم يكن هناك عائق يحول بيننا. كنت دائمًا أشعر بأنها طفلتي، و كنت أدللها كثيرًا، لم أشعر يومًا بكبر سنها، أو أني أصغر منها. كان الحب الذي ربط بين قلبينا يكبر كل ثانية. ما إن وافقت حتى ذهبت إلى أبي ليخطبها ، هاج و ماج، رفض بشدة دون تفسير، حاولت أن أفهم منه السبب، لا تحسبوا السبب الفرق العمري بيننا، فأمي أكبر من أبي بثلاث سنوات، تزوجها أبي عن حب، و حارب لأجلها. بعد محاولات مستميتة لمعرفة السبب باءت كلها بالفشل، لم أستطع تمالك أعصابي، احتدت عليه لأول مرة، أخبرته بأنه تزوج أمي، على رغم من معارضة الجميع له لأنه يحبها، فكيف ينكر عليَّ حقي في الاختيار، فصفعني بقوة، حتى كاد ينفجر الدم من وجهي. تركته و ذهبت إلى غرفتي، في حين ذهبت أمي خلفه ، تستعلم منه الأمر، فأخبرها بأنه قد خطب لي ابنة شريكه بالعمل، و هو لن يسمح لأحد أن يكسر كلمته، و سوف يزوجني إياها مهما كان الثمن. ذهلت أمي من كلامه، فكيف يخطب لي دون علمي، و دون موافقتي. حاولت أن تثنيه عن رأيه، فصرخ بوجهها، و ترك المنزل ليعود فجرًا، فيتشاجر معي حتى أذهب معه صباحًا إلى شريكه، ليتمم خطبتي لابنته. و هذا ما رفضته بقوة، فقام بسبي، و ضربي حتى كلت يداه، فتركني لينام. ما إن أشرقت الشمس حتى اتصلت بأعمامي لنجدتي، فأتوا ظهرًا، و معهم رفاق أبي حتى يجعلوه يعدل عن رأيه، فما كان منه إلا أن صرخ فيهم قائلا :”هذا ولدي، و ليس لكم الحق لتتحدثوا بشأنه “.
كانت هذه أول مرة يرتفع فيها صوته عليهم، فغضبوا و تركوا المنزل و أنا معهم. لم تحتمل أمي رحيلي هكذا، فاتصلت بأخوالي ليقنعوا أبي، فطردهم بمجرد أن نطقوا اسمي. جُنت أمي لطرده أخوتها، و لأنه تسبب في تركي المنزل، فأخبرته بأنها ستذهب مع أخوالي ليخطبوا لي فتاتي، فضربها ضربًا مبرحًا، وأقسم عليها إن تزوجت محبوبتي فسيطلقها، و هي الطلقة الثالثة، و بذلك تحرم عليه، و بمجرد نطقه بالكلمة تطرد من المنزل، و لن تجد مكانًا تلجأ إليه. أخذت أمي تبكي كثيرًا حتى غُشي عليها، فقامت زوجة أخي بالاتصال بي لأرى أمي. عدت إلى المنزل، و ضممت أمي إلى صدري ، و أخبرتها بأني لن أقوم بفعل شىء يتسبب في طلاقها أو إهانتها، ثم اتصلت بحبيبتي لأخبرها بكل شىء، و أنا أبكي لضياعها مني، و لأن أبي يعاملني كفتاة تعيش في عشرينيات القرن الماضي لا حق لي في اختيار من تتزوجه. تمسكت بي حبيبتي، فتهربت منها حتى تكرهني، و تنساني لتكمل طريقها في الحياة مع غيري، من يستحق أن يكون رجلها ووالد أبنائها، و لكني لم أستطع أن أمنع نفسي من التماس أخبارها من بعدٍ ”
كان الشاب يحكي بقلب منفطر، و دموعه تغرق وجنتيه، و هو ينظر إلى أبيه بغضب شديد. صمت الشاب لحظة ليزدرد لعابه، ثم أكمل.
“لم يحتمل أبي اصراري على رفض الزواج من ابنة شريكه، فأمرني بترك المنزل، وأن أعيد الأرض التي أعطانيها، لأقيم عليها مشروعي. كان هذا فوق احتمال أمي، فقامت بالاتصال بالجميع، الذين حاولوا معه ليعدل عن تدمير مستقبلي دون جدوى، فكل ما يفكر به هو هيبته و كلمته التي يجب ألا تكسر، فامتثلت الأمر تاركًا البيت، معيدًا له أرضه، و رحلت إلى مكان بعيد، لأبدأ من جديد، و لكن ما كان يقتلني هو ابتعادي عن أمي و ضياع حبيبتي.
مر على هذا الحال عام، أعمل فيه ليلًا ونهارًا، حتى أني أنام بمحل عملي، لأوفر أقصى استطاعتي. في ليلة كئيبة عاد أبي بعد مشاجرة عنيفة مع شريكه الذي أصر على فض الشراكة، لاعتباره عدم زواجي من ابنته إهانة له و لها، وجد أمي تحتضن صورتي، و هي تبكي بشدة، فأمسك شعرها ليجرها وهو يكيل لها السباب و اللكمات، ثم ضرب برأسها الحائط فشجها، ثم طلقها، تاركًا إياها تسبح في دمائها، على أصوات صراخها نزلت زوجة أخي من الطابق العلوي تركض، و بين يديها طفلتها الصغيرة ذات العامين، فوجدت أمي تنزف في غزارة. اتصلت بأخي الذي نقل أمي إلى المشفى، و اتصل بي لأحضر. عانت أمي عدة أيام، ثم بدأت تتماثل للشفاء، و قبل خروجها بيوم واحد أخبرتها بأني سآخذها لتعيش معي، فأمسكت يدي برفق، و طلبت مني أن نحدد موعد مع محبوبتي لتخطبها ”
أشرق وجهه ـ وهو يكمل ـ كأنه البدر، عيناه الحالمتان تشعان سعادة غامرة ” ما بعد ذلك مر كالحلم، فقد تمت خطبتنا خلال أسبوع، و بعد عدة أشهر تزوجنا. كانت زوجتي كحوريات الجنة، كنسمة الصباح الخريفي، رقيقة كالورد البلدي. كانت كل ما أحلم به و أكثر، لقد تعلقت بها أمي كابنتها. كنت أحمد ربي كل يوم على هذا النعيم. أكرمني ربي من فضله، فجاءتني البشرى بحمل زوجتي في توأم، و تزامن مع ذلك أن اتسعت تجارتي ومشروعي، كأني انتقلت إلى الفردوس، سجدت أشكر الله على نعمه. كنت أحسب الساعات لا الأيام حتى موعد الولادة، لأضمُّ طفليَّ إلى صدري. لم يكن هناك ما يكدر صفو حياتي، فأبي لا يعلم عنا شيئًا، و لا أين نعيش، و أخي يحدثني خُلْسَةَ، و أخوالي منذ طلاق أمي قطعوا كل صلة به”
و فجأة أكفهر وجهه، و تسابقت دموع عينيه إلى الانتحار فوق وجنتيه، تكلم بصوت محموم مُشَرَّب بلوعة حارقة “حتى جاء اليوم الموعود، ذاك اليوم الذي حلمت به و زوجتي كثيرًا، كنا نتنافس من منَّا سيرى طفلينا أولاً، من سيكون له السبق بحملهم بين ذراعيه. كانت زوجتي تتأرجح بين عالمين، كدت أجن من الخوف عليها، أدعو الله أن ينجيها، و بفضل الله و رحمته نجيت و طفليَّ.
خلال تلك الأثناء اتصل أخي ليطمئنَّ، فسمعه أبي مصادفة، فأخذ منه الهاتف، و كسَّره في ثورة جنون، و لكمه في أنفه، و كسر ذراعه ليعلم منه مكاني، ما أن علمه حتى انطلق لا يلوي على شىء، وأخي ينطلق خلفه يحاول اللحاق به،وهو يتجاهل آلامه ودماءه التي تغرق وجهه.
بعد عدة ساعات من ولادة زوجتي، أقبلت عليها حاملا طفليَّ وهما يبكيان بصوت رقيق، أمازحها بأنني الفائز بسبق رؤيتهما وحملهما بين ذراعيَّ. ضحكت زوجتي برقة، تصنعت الغضب لخسارتها، ثم أخذتهما بين ذراعيها لأول مرة، و قبلتهما بشوق جارف، فأخذا يستجيبان لمداعباتها، و مدا كفوفهما الصغيرة إليها يبغيان لمس وجهها، فضمتهما إلى صدرها باكية، هي تحمد الله على فضله. أمرها الطبيب أن ترضعهما، فألقمتهما ثديَّها، و هي تنظر إليهما بحنان جارف. كنت أراقبها بسعادة لا حدود لها. كان أكثر ما أثار دهشتنا هو سرعة نوم وليدنا الأكبر، فقد نام خلال خمس دقائق، فحملته عنها، ووضعته في سريره الصغير جوارها، أما الأصغر فكان تصرفه أكثر عجبًا، فقد كان يلتهم ثديها التهاما لا عن جوع لكن عن احتىاج لأمه وأمانها وحنانها. كانت عيناه تتطلع إلى أمه لا تريد أن تفارقها، ليشبع عينيها منه، أو يشبع عينيه منها. و كان يحرك يديه حتى لامست يد أمه، فأمسك ببنصرها بقوة عجيبة. و في تلك اللحظة اقتحم أبي الغرفة شاهر مسدسه، و أطلق النار على زوجتي، فأخطأ قلبها و أصاب رأس ابني، الذي انفجر مغرقًا أمه بدمائه الطاهرة، وأجزاء من عظامه الهشة العالق بها بعضا من مخه ، و تطايرت بعض من القطرات على وجه أخيه الغافي، الذي أطلق صرخة فظيعة أعقبها صمت قاتل في لحظة إصابة أخيه بالرصاصة القاتلة. لم تحتمل زوجتي قتل وليدها بين ذراعيها، فغشي عليها. كان الذهول قد أصابني بالشلل، و أنا أرى ابني الأصغر يموت أمام عيني، و زوجتي وابني الأكبر في عالم آخر. لم يردع هذا أبي، فرفع مسدسه محاولا إصابتها هذه المرة، و قبل أن أتحرك، اقتحم أخي الغرفة، و معه عدد من رجال الأمن، و أمسكوا به قبل أن يصوب مسدسه إلى رأسها. كانت أمي في هذه الأثناء تصرخ بشكل هستيري، والأطباء ينقلون زوجتي إلى العناية الفائقة، و طفلي إلى حضانة خاصة لإنقاذهما، و لم يخرجا إلى الآن، و أنا أحمل بين يدي ولدي القتيل أضمه، و أقبله لا أجد من الدموع ما أذرفها”
ثم ألتفت إلى القاضي صارخًا بصوت مبحوح :”الآن يا سيدي اخبرني كيف أعيش و زوجتي و ابني بين يدي الرحمن..؟ لا أعلم هل سأراهما مرة أخرى أم لا، وولدي الذي دفنته قبل أن أستخرج شهادة ميلاده ؟”.
ثم التفت إلى الحضور وهو يصرخ، و أنهار من دموعه الحارة تفور من عينيه، و القاعة تضج بالبكاء:” فليخبرني أحدكم كيف لي أن أتنازل عن حق زوجتي و طفلييَّ إنْ تنازلت أنا عن حقي؟”