أدب و ثقافةروايات و قصص

كي يكونَ ذئباً

مجدي محروس

مجدي محروس

يكتب

كي يكونَ ذئباً

شققتُ طريقي وسطَ الزحامِ، إلي ذلك الشارعِ الجانبي المتفرِّعِ من شارعِ الأزهر، في وسطِ البلدِ، وولجتُ ذلك المطعمَ الذي أتناولُ فيه وجبةَ الغداءِ يومياً منذُ أكثرِ من عشرِ سنواتٍ، علي مائدتي المُفضَّلة المجاورةِ للنافذةِ جلستُ، واستقبلني “شعبان” عاملُ المطعمِ، وعلي شفتيه ابتسامةٌ واسعةٌ زائفة، وقد راحَ يُنظِّفُ المائدةَ، مردداً عباراتِ المجاملةِ المعروفةِ، في انتظارِ ما سيحصلُ عليه من بقشيش ..
كان شاباً علي مشارفِ الخامسةِ والعشرين من عمرِه، ولكنَّ الزمنَ حفرَ علي وجهه تجاعيدَ الفقرِ، التي قفزتْ بعمره عشرَ سنواتٍ علي الأقل ..
وضعَ أمامي صحافَ الطعامِ، وعلي شفتيه نفسُ الابتسامةِ الزائفةِ، وفجأةً انمحتْ تلك الابتسامةُ من فوق شفتي “شعبان”، وحلَّ محلها غضبٌ شديدٌ، وهو يصرخُ ناظراً لشيءٍ ما خلفي :
– أين كنتَ ؟ ألم تقمْ بتنظيفِ المحلِ حتي الآنَ ؟
تطلعتُ ذاهلًا لملامحه التي تبدَّلتْ في سرعةٍ، واستدرت بجسدي لأرى لمن يوجه صرخته، ففوجئتُ بطفلٍ صغيرٍ، لا يتعدى عمرُه سبعَ سنواتٍ، وقد وقفَ يرتعدُ بينَ يدي “شعبان”، وهو يقول :
– وهل أنظِّفه وحدي؟! لقد قالَ صاحبُ المحلِ ..
ولم يكملْ الطفلُ الصغيرُ عبارتَه، حيثُ قطعتَها صفعةٌ قويةٌ، لها دويٌّ شديدٌ علي وجهه، فسقط أرضاً، و”شعبان” يقولُ بصوتٍ عميقٍ كفحيحِ الأفعى :
– ستنفذُ ما آمرُكَ به وإلا ..
ولم يكملْ “شعبان” عبارتَه، وقد وصلَ مضمونُها إلي الطفلِ، الذي نهضَ من سقطته، وشرعَ في تنظيفِ المحلِ، وفي عينيه تكونتْ نظرةُ ألمٍ هائلة، تحملُ كلَّ حزنِ الدنيا ومرارتها .
تراجعتُ بظهري للوراء، وأنا أتطلعُ للطفلِ الصغيرِ، وعدتُ بذاكرتي إلي ما يقربُ من ربعِ قرنٍ مضى ..
إلي تلك اللحظةِ التي ولجتْ فيها قدماي أرضَ القاهرة؛ باحثاً عن عملٍ يُساعدني علي إتمامِ دراستي الجامعية
تلك اللحظة التي كنتُ فيها حملًا وديعاً ..
وطافَ بذاكرتي كلُّ ما عانيتُه وقاسيتُه علي يدِ مَنْ هم أقدمُ منِّي في العمل ..
تذكرتُ دموعي التي سفحتَها عيناي ليلًا، ولا يوجدُ شاهدٌ عليها غير وسادتي ..
تذكرتُ كم مرةٍ أقسمتُ بيني وبينَ نفسي أنني سأتركُ العملَ – وأعودُ لقريتي، ولتذهبُ الدراسةُ والأحلامُ العريضةُ للجحيم؛ فالأحلامُ ليستْ من حقِّ الفقراءِ – لولا ذلك العائدُ المادي (البقشيش) الذي كنتُ أتحصَّلُ عليه من روادِ المحلِ غيرَ مرتبي، والذي كان يتزايدُ كلما زاد حبُّ الناسِ لي مع مرورِ الأيام ..
عند ذلك صمدتُ، وصبرتُ، وتحملَّتُ ..
وشيئا فشيئا وقفتُ علي قدمين ثابتتين ..
وازدادت الأرض صلابة تحتَ قدميَّ ..
ونشبتْ لي أظافرُ ..
فمخالبُ ..
و .. أصبحتُ ذئباً مرهوبَ الجانبِ ..
نعم .. نعم أصبحتُ ذئباً يخشاه الجميعُ، ويعملُ له ألفَ حساب .. ألفَ ألفَ حساب و ..
استيقظتُ من شرودِي علي صدي صفعةٍ ثانيةٍ هوتْ علي وجهِ الطفلِ، ويصاحبها الصوتُ الشبيهُ بفحيحِ الأفعى مرةً أخرى :
– قلتُ لكَ .. قمْ بتنظيفِ المحلِ جيداً .
ومرةً أخري ..
يسقطُ الطفلُ أرضاً ..
ينهضُ في ذلٍ واستكانة ..
تتضاعفُ في عينيه نظرةُ الألمِ مراتٍ ومرات ..
في تلك اللحظة بكي قلبي بدموعٍ من دم، ورحتُ أصرخُ بأعماقي، وأنا أتطلعُ للصغير:
– لا بدَّ وأنْ يكونَ ذئباً .
ودونَ أنْ أدريَ هل انتهيتُ من طعامي أم لا، نهضتُ واقفاً، ومددتُ يدي بجيبي، وأخرجتُ ورقةً ماليةً، ووضعتُها في يدِ الصغير، الذي نظرَ للورقةِ الماليةِ، ثم نظرَ إلىَّ، وقد زالتْ كلُّ علاماتِ الألمِ والحزن، وحلَّتْ محلَّها ابتسامةُ شكرٍ وامتنان ..
عندئذٍ غادرتُ المحلَّ، وأنا أشعرُ بالفخرِ ..
نعم .. كلُّ الفخرِ؛ لأنني وضعتُ اللبنة الأولي لذلك الصبي ..
كي يصمدَ ويصبرَ يتحملَ و ..
لتنموَ أظافرُه، وتتحوَّل لمخالبَ و .. يكونُ ذئباً !
تمَّتْ بحمدِ الله
مجدي محروس

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى