
كلوا البسكويت..
إذا لم تجدوا الخبز؟!
( أصبحت ماري إنطوانيت ملكة إلى جانب زوجها ملك فرنسا لويس السادس عشر،ولم تكن
جاوزت التسعة عشر عامًا من عمرها، شابة جميلة رقيقة،عينان زرقاوان تشعان بالحياة في وجه أبيض ينبض بالحيوية.. وجسد بض لين، وشعر أشقر وفير، إضافة إلى أنوثة جد طاغية، وقد قال فيها الشاعر «هوراس والبول» الإنجليزي رغم بروده وشيخوخته ( إن ماري إنطوانيت حينما تقف فهي تمثال الجمال،وحين تمشي فهي الأناقة مجسمة. )
عن: ايفلين فار.. و كتابها ( أحبك بجنون – مارى انطوانيت :الرسائل السرية )
وقد سجل التاريخ مقارنة بين ماري أنطوانيت ومدام دي باري عشيقة ملك فرنسا لويس الخامس عشر،ذلك لأن ماري إنطوانيت لم تكن بأي حال أفضل من مدام دي باري فيما يتعلق بالسلوك والعلاقات، فإن كانت مدام دي باري زوجة لرجل غاب عن الحياة غيبة غامضة واختارت أن تكون عشيقة ملك فرنسا – لويس الخامس عشر – فإن ماري إنطوانيت كانت زوجة لرجل حاضر هو– لويس السادس عشر – ومع ذلك عشقت في حضوره .ولعل أبرز حكايات عشقها كانت تلك التي ارتبطت فيها مع الكونت «اكسيل دوفيرزن» بعلاقة خاصة جدًا حميمة وممتدة.وقد بدأت هذه العلاقة أثناء إحدى الحفلات التنكرية، إذ أُقيم في الأوبرا مساء يوم الأحد الموافق 3 كانون الثاني عام 1774 واحد من تلك الاحتفالات التنكرية التي يتزاحم فيها المدعوون، وفي تلك السهرة حضر إلى قاعة الاحتفال فريق من عدة أشخاص يحيطون بامرأة حسنة المشية، تضع قناعًا من الحرير وتلتف بتلك العباءة الفضفاضة الحريرية التي تُسمى «الدومينو».وأثناء الحفل اقتربت هذه السيدة ذات القناع من شاب في التاسعة عشرة من عمره، وهو سويدي الأصل، ويُدعى «ركسيل دو فيرزن».ونشأ بين السيدة والشاب حوار طويل احتوى على الكثير من العبارات الغامضة والماكرة، وبعد فترة تركت السيدة الشاب كي تتجاذب أطراف الحديث مع بعض الحاضرين وقد كشف هذا الحديث على الفور عن شخصية السيدة.. إنها ولية العرش «ماري إنطوانيت» وكان هذا اللقاء بمثابة الشرارة التي أطلقت على قصة العشق التي اتخذت فيما بعد أبعادًا أسطورية، فلم يكن هذا اللقاء هو اللقاء الأخير، وإنما أصبحت هناك دعوات كثيرة توجه إلى فيرزن لحضور الحفلات الراقصة المُقامة في قصر فرساي وهكذا أصبح «دو فيرزن» من المقربين إلى الملكة ماري إنطوانيت – التي انتقلت من موقعها كأميرة مع زوجها ولي العرش إلى ملكة بعد وفاة الملك والد زوجها في ذات الفترة التي بدأ فيها غرامها بــ «فيرزن» – فهو من بين الذين يُشاركونها اللعب، والذين تدعوهم إلى سهراتها الخاصة.ولكن لم تلبث الإشاعات أن انتشرت، لأن شغف الملكة أصبح ظاهرًا، ولم يترد كثيرون في التأكيد على أنها عشيقة السويدي.وحرص فيرزن على القضاء على حملة النميمة التي أُثيرت حوله وحول الملكة، لذلك عمد الإبحار إلى أمريكا ضمن حملة عسكرية يقودها الكونت «دور رو شامبو»..وفعلًا رحل فيرزن إلى نيويورك كمعاون لرو شامبو.. وبعدما عادت الحملة، فكر فيرزن في الاستقرار بفرنسا، ولكي ينال موافقة أبيه الذي عارض الفكرة، أخذ يلوح له بفكرة الزواج من «جيرمين» الفائقة الثراء، أو من الآنسة «ليبل».. ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث.أما الملكة ماري أنطوانيت فقد وضعت عام 1781 وأثناء سفر فيرزن إلى أمريكا مولودها الأول والثاني وسط ابتهاج عام.ولم تلتق الملكة بفارسها ثانية إلا في شهر مايو 1783 حيث كانت ماري إنطوانيت جالسة في الصالون الذهبي تعزف على القيثارة فبلغها أن الكونت دو فيرزن جاء، عندئذ لم تتمكن من إخفاء انفعالها أمام الحضور إلا بمشقة بالغة ولكن لقد تغير فيرزن كثيرًا، إنه الآن رجل مكتمل الرجولة، فقد كبر عشر سنين إلا أنه قد ازداد سحرًا وإغراء، أما الملكة فقد أصبحت في أوج جمالها بعد أن زادتها الأمومة تألقًا، ولقد كتبت رسامتها الخاصة مدام «فيجين لوبرين» تقول: كانت ماري إنطوانيت طويلة مشرقة رائعة التناسق، مُمتلئة دون ميل نحو البدانة، وكانت ذات ذراعين بديعين، وكفين صغيرتين كاملي التناسق وقدمين جميلتين، وكانت صاحبة أجمل مشية بين نساء فرنسا، فهي تسير رافعة الرأس بشموخ وجلال فتجعلك تميزها من بين جميع سيدات البلاط والحاشية، أما الذي يلفت النظر في محياها فهو ذلك التألق المدهش في لون بشرتها.
وكان لا بُد من الفراق بين الملكة والكونت الشاب، فقد عجز فيرزن عن إقناع والده بما يحتاج إليه من مال، فذهب إلى مليكه «غوستاف الثالث» الذي كان راضيًا عنه، فمنحه رتبة عسكرية ثم اصطحبه معه إلى إيطاليا.. وكان الفراق قاسيًا، فما يربط بين الملكة وفيرزن هو الغرام الحقيقي.وعاد فيرزن إلى باريس ضمن أعضاء الوفد الملكي المُرافق لغوستاف الثالث في زيارته الرسمية لفرنسا، وأقامت الملكة على شرفه احتفالًا رائعًا في قصر تربانون، وكان من شأن ذلك الاحتفال أن أسبغ طابعًا رسميًا على حبهما.عاد فيرزن أخيرًا مع نهاية عام 1788 كان الغليان قد بدأ في جوانب الحياة الفرنسية، وكانت الملكة في تلك الآونة في أشد الحاجة إليه أكثر من أي وقت مضي.وكان الخطر الأكبر على ماري إنطوانيت قد بدأ عندما نشأت بالبلاد طبقة من الشعب ذات تيارات فكرية جديدة استمدت أفكارها من مؤلفات “جان جاك روسو” فتبصروا بحقوقهم وغاروا على مصلحة بلادهم ووطنهم بعد أن أصبحت الحالة الاقتصادية في فرنسا تزداد سوءًا بسبب الإسراف الزائد في البلاط الملكي والمحسوبيات القذرة إلى خلقتها الملكة ماري إنطوانيت وزاد السخط أكثر وأكثر بعد أن ارتفعت الديون وأنهار الجيش وضاعت المستعمرات، وغير ذلك من مظاهر الفوضى والفساد، في حين أن الدول الأُخرى المُجاورة تتقدم وتزداد قوة ورقي، وكان هذا السخط العام كله يتجه صوب الملكة الفاسدة وحدها، فقد كان الشعب يعرف ويوقن أن السلطة كلها بيدها، فالملك رجل ضعيف بليد لا حول له ولا قوة. ويومًا بعد يوم ازدادت الحالة سوءًا وازداد السخط، فكان يجتمع كل يوم عشرات الأحرار وأنصار الدستور وأتباع «فولتير» وعديد من المثقفين ورجال الصحافة والأدباء والفنانين، كما كان الكونت «دوبروفينس» شقيق الملك من أكبر المعارضين الذين يعملون في الخفاء على أمل أن يجلس يومًا ما على عرش فرنسا.ولما بدأت الثورة على الملك والملكة تأخذ طريقها في الظهور بدأ الكونت «دوبرفنس» يعمل جهرًا ضد أخيه الملك، فأخذ يوزع المنشورات المثيرة ضده وضد زوجته ماري إنطوانيت، حتى أن هذه المنشورات جاوزت حدود فرنسا، وازداد عددها بكثرة وبطريقة مثيرة، ولم تكن من عمل الكونت دوبروفنس فقط، بل أن كل الطوائف المُعادية المُطالبة بالثورة اشتركت في نشر وتوزيع المنشورات، ووصلت إلى الملكة نفسها، فقد كانت طوائف المعارضة الثورية تتشعب في كل أرجاء البلاد.وهكذا وجدت ماري إنطوانيت نفسها مُحاصرة من كل جانب بالأعداء، فقد كان لا بُد أن يستيقظ الشعب المسكين الذي رضخ تحت وطأة النظام الملكي الظالم سنين طويلة، بل حقبة من الزمن بالقصيرة امتدت على مدى أكثر من لويس! كان آخرهم تعيس الحظ الذي جاءت بجواره على العرش امرأة مثل ماري إنطوانيت، فكانت من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى يقظة الشعب الفرنسي وثورته.لهذا كله كان لا بُد أن يثور الشعب ويُطالب بالحرية، فقد أقبل الجميع على قراءة «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، ومؤلفات فولتير وديدور التي تقول أن النظام الملكي ليس أفضل الأنظمة، وليس النظام الوحيد الذي أراده الله.كما ظهرت في هذه الأثناء بعض الشخصيات المُتحمسة للثورة سواء كان هذا نابعًا من مطامع شخصية أو دوافع وطنية، فقد ظهر «سميرابو» الذي لُقِّبَ «خطيب الثورة»، كما ظهر «لافاييت وروبسبير ودانتون ومارا»..وقد كانت أول مظاهر الثورة الإيجابية هي الاستيلاء على سجن الباستيل في 14 يوليو 1789، فقد خرج عشرون ألف رجل صوب هذه القلعة التي كانت بمثابة سجن يُسجن فيه الأحرار والأبرياء،فاستولى عليها المُتظاهرون وعلقوا رأس حاكمها على قمة حربة وراحوا يطوفون به أنحاء باريس، وكانت تلك هي الشرارة الدموية الأولى للثورة.وفي يوم 4 أكتوبر – في باريس – زحفت جموع الشعب الغاضبة رجال ونساء قاصدين قصر فرساي حتى بلغوه بعد مسيرة ست ساعات، وظلت هذه الجموع الهائجة حول القصر طوال هذه الليلة إلى أن دقت الساعة الخامسة صباحًا، فانطلقت فجأة رصاصة من بندقية كانت إيذانًا ببدء الهجوم، فهرع الثوار نحو القصر من كل صوب بالمئات والألوف مُسلحين بالبنادق والحراب والفئوس.وكان هدف الجميع جناح الملكة، فقتلوا الحراس الذين قاوموهم، وحملوا رؤوسهم على الحراب، وهرعت إحدى الوصيفات إلى الملكة تحثها على الإسراع بالهرب ولم تجد الملكة وقتًا لارتداء جوارب أو حذاء فجرت حافية القدمين وبيدها جواربها إلى جناح الملك.وفي خارج القصر كان يقف عشرة آلاف ثائر، صيحاتهم ترتج لها كل جدران القصر تُطالب بانتقال الملك والملكة إلى باريس، وبالفعل بدأ الموكب الملكي الحزين، فخرجت من القصر عربة ضخمة تجرها ستة جياد كانت تقل الملك والملكة وجميع أفراد الأُسرة المالكة الذين تركوا قصر فرساي بلا رجعة وإلى الأبد.وأخيرًا وصل الموكب إلى باريس وتم السماح للملك والملكة بأن يقيما في قصر التوليري، ذلك القصر القديم المهجور الذي كان فيما مضى مقر الملوك، ولكنه مُنذ عهد لويس الرابع عشر لم يسكنه أحد.وأوى الملك والملكة في غرفة مهملة ليس بها أثاث ولا شمعدانات وأبوابها لا تُغلق ونوافذها مُهشمة، ولكن الخدم أعدوها سريعًا على ضوء الشموع، ومُنذ ذلك الحين أصبح الملك والملكة صورة فقط ليس لهما أي سلطة فالسلطة كلها قد أصبحت في يد الثورة. ونعود لدور العشيق «فيرزن» فلما كان القصر قد أُحيط بالحرس الوطني حتى لا يهرب الملك والملكة، وكان كل الخدم تقريبًا من الجواسيس، ورغم ذلك ظلت ماري إنطوانيت على صلتها بعشيقها فيرزن، فهو الوحيد الذي كان يملك مفتاح الباب السري المُؤدي لغرفة ماري إنطوانيت في قصر التوليري، وقد تسلل إليها ذات يوم وقضى معها الليل بطوله وحدهما، كما قام بمساعدتها هي والملك والأسرة المالكة على الفرار من قصر التويلري إلى خارج باريس ثم خارج الحدود. وقد بذل فيرزن في هذا أقصى ما يستطيع من جهد من أجل غرامه وعشقه للملكة ماري أنطوانيت، ولكن مشروع هذا الفرار فشل في النهاية بعد أن تم تنفيذ الجزء الأكبر منه، ولم يلتق العاشقان بعد ذلك، إذ بقى فيرزن خارج فرنسا يتتبع الأخبار،فقد أُعدم الملك،وجاء الدور على الملكة لتلتقي مصيرها.دخلت السجانة في صباح ذلك اليوم على ماري أنطوانيت في زنزانتها،وجدت الشمعتين تضيئان بضعف وصمور وشعلتهما تترنح في النفس الأخير ويخبو ضوءهما شيئًا فشيئًا، فبدت الرؤية للقادم من الخارج ضعيفة برهة من الوقت. كان الشرطي قابعًا في ركن من الغرفة وماري أنطوانيت منطرحة على فراشها في ثيابها السوداء كاملة، لكنها لم تكن نائمة، بل كانت عيناها مُعلقتين على سقف الحجرة تنظر إلى نقطة واحدة لا تحيد عنها، فقد كان هذا اليوم هو أطول يوم في حياة ماري أنطوانيت.قدمت لها السجانة حساء الإفطار فاعتذرت ماري أنطوانيت في هدوء، إلا أنها تحت إلحاح السجانة التي أشفقت عليها، تناولت بضع ملاعق صغيرة، ثم ساعدتها السجانة في تغيير ملابسها، فقد كانت التعليمات ألا تذهب ماري أنطوانيت إلى المقصلة بثوب الحداد خوفًا من إثارة الشعب، .. ورأت ماري أنطوانيت أن تلبس ثوبًا أبيض خفيفًا، وكانت أقسى مظاهر الذل والهوان تلك الواقعة التي حدثت في هذا الصباح، فقد كانت ماري أنطوانيت تُعاني في الأيام الأخيرة من نزيف مُستمر، فأرادت أن تُغير قميصها، فطلبت من الشرطي القابع في الحجرة معها أن ينسحب لحظة، غير أنه رفض بناء على الأوامر الصادرة إليه بألا يتركها دقيقة واحدة، فلم تجد ماري أنطوانيت أمامها سوى أن تجثو على ركبتها في ركن من الغرفة بين السرير والحائط، ووقفت السجانة أمامها.. لتسترها حين تتجرد من ملابسها، ولما انتهت ماري أنطوانيت أمسكت بالقميص الملوث بالدماء فكومته ودسته في فوهة بالحائط خلف السرير! انتهت ماري أنطوانيت من ارتداء ملابسها بعناية، فهي حريصة على أناقتها ومظهرها حتى آخر لحظة من حياتها..في الساعة الثامنة حضر القسيس ليأخذ اعترافها، إلا أنها رفضت في أدب أن تعترف له.. ولما سألها: هل يصحبها إلى حيث التنفيذ؟ أجابت في هدوء «كما تشاء».وفي الساعة العاشرة صباحًا جاء الجلاد «سمسون» وهو شاب مارد ضخم الجثة، استسلمت له ماري انطوانيت وهو يقيد يديها خلف ظهرها فلم تبد أي مقاومة.وفي الساعة الحادية عشر صباحًا فتحت أبواب السجن على مصراعيها وبدأت مراسم تنفيذ حكم الإعدام كانت اللحظات التاريخية العصبية تمر بطيئة متثاقلة جاءت عربة مكشوفة ذات حواجز يجرها جواد كبير أعد في وسط العربة لوح من الخشب كمقعد تجلس عليه ماري أنطوانيت.وقفت العربة أمام باب السجن،خرج الضباط أولًا يليهم فرقة كاملة من الحراس فوق ظهورهم البنادق ثم تبعهم المارد سمسون وهو يسير بوجه متجهم في خُطى ثابتة، صدره عاري تلمع في وهع الشمس، يمسك في يده بطرف حبل،طرفه الآخر على مسافة مترين يسحب به ماري أنطوانيت،كان القسيس في ملابسه السوداء والصليب يتدلى على صدره والقبعة تُغطي بعض عينيه، يسير ببطء بجوار ماري أنطوانيت، واستمر هذا الموكب المهيب من داخل السجن حتى خارج البوابة حيث كانت تقف تلك العربة المكشوفة بجوادها الثقيل وعليها المقعد الخشبي الذي ستجلس عليه ماري أنطوانيت..كانت الجماهير واجمة في ذهول وهي تصطف على جانبي الطريق لترى هذا المشهد الفريد في تاريخ فرنسا،ورغم ضخامة وكثرة ازدحام الجماهير إلا أنهم كانوا صامتين عيونهم شاخصة على الموكب وكأن على رؤوسهم الطير أو أن أنفاسهم قد حبست، فإن رهبة هذا المشهد المهيب كانت أقوى من أي شيء.كانت ماري أنطوانيت تتقدم وسط هذا السكون بخُطى بطيئة نحو العربة، ثم وقف سمسون خلف العربة وصعد عليها واستدار في هدوء وهو يمد يده لماري أنطوانيت ليساعدها على الصعود.جلست ماري أنطوانيت على المقعد الخشبي وإلى جوارها القسيس في ملابسه السوداء، ووقف سمسون العملاق بصدره العاري فوق العربة فارجًا قدميه على وجهه جمود لا ينم عن أي شعور، وما زال طرف الحبل في يده.. سارت العربة ببطء بين جماهير الشعب التي جاءت لترى هذا المشهد الخارجي، وكات ماري أنطوانيت وهي جالسة على مقعدها الخشبي تهتز مع كل درجة للعربة وعيناها محمرتان تنظران إلى أعلى، وكأنها تنتظران أن تأتي لها السماء بمعجزة تنقذها من مصيرها المُؤلم ومن سيف الجلاد سمسون.كان جسدها كله يختلح وكل نقطة دم في عروقها تصرخ وتستغيث وقد بدت وكأنها امرأة هرمة عجوز ووجهها شاحب هزيل، ورغم هذا كانت تُحاول جاهدة أن تضبط زمام مشاعرها وألا تلتقي عينيها بعيون الشعب.وترامت إلى أسماعها الشتائم وعبارات الاستهزاء، فكانت وكأنها لا تسمع ولا ترى، بل أنها ظلت تنظر إلى أعلى في استسلام، وكان ميدان الجمهورية الفسيح الذي تتوسطه منصة المقصلة يعج بالآلاف الذين جاءوا منذ الفجر حتى لا يفوتهم ذلك المشهد الفريد، مشهد إعدام ملكة. ..وقفت العربة أمام المنصة ورأت ماري أنطوانيت المقصلة ونصلها الحاد،فنظرت إليها برهة في شرود وهي جالسة على مقعدها الخشبي،فبدت وكأن الدنيا تميد بها، وما هي إلا لحظات حتى بدأت المراسم الأخيرة.هبطت ماري أنطوانيت من العربة في بطء وتثاقل، تقدمت خطوتين..صعدت درجات المنصة بصعوبة، أمسكها الجلاد ولمع للسلاح بريق وهو يهوى على رقبتها،اصطبغت المنصة بلون أحمر قاتم وساد الميدان صمت وسكوت، وأمسك سمسون برأسها ولوح به لأعين الجماهير التي صاحت :(تحيا الجمهورية)..(تحيا الجمهورية).بعد أن تفرقت الجموع جيء بعربة نقلت جثمان ماري أنطوانيت، وقد وضع رأسها بين فخذيها، وكانت تلك هي نهاية ملكة انتقلت باستهتارها وغرورها من العزة والجاه إلى الذلة والمهانة، ومن العربة المذهبة الفاخرة إلى عربة الجلاد، ومن العرش إلى منصة المقصلة