
أحمد سعيد
أسير في شوارع كرداسة، حيث الأزقة متسعة حد الضيق، حيث بائع “البطاطا” يتجه ناحية الكوبري دون أن يصيح في “الزبون”، أو يُلفت انتباهه.
حيث المقهى وقهوة الحليب، حيث السماء صافية، لكنها تغضب فجأة.
أسير في شارع السوق القديم، حيث ملابس النساء تغمز لي على الجانبين، وبائع الحلويات يمنحني شفاهَ فتاةٍ مُسكرة.
الطريق طويلٌ والخرائط تضيع هنا، شيخٌ يصيح من المسجد: كن مع الله. وقسيس يرفع صوته من الكنيسة: عُد إلى الرب.
لا شيء يمنح البركة هنا، سوى صوت أمي. لا شيء يفرح هنا.. سوى وجه أمي.
لا شيء هنا.. سوى أمي وقلبها النابض حباً.
كرداسةٌ بلدةُ الوجعِ، كلما سمعت جدتي تكرر الكلام: تزوج؛ لتريح أمكَ في تربتها.
أتذكر المرأة البسيطة، التي سكن بقلبها الكون، وأحبت الأشجار، والقطط، وفراشات الربيع، كانت تعطني كل يومٍ بهجةً، وتُبعد عني صفيحةَ حزنٍ.
” الحصواية” مكانٌ متسعٌ لكل شيءٍ، درويشُ الحكاياتِ الشعبية يهرول خلفي، وأنا الطفل المشاكس، كلما ألقيت عليه حجرًا زادت سرعته، وكلما راوغته أجده أمامي.
كرداسةٌ بلدةُ الفرح، كلما رقصتْ عروسٌ تبعتها أخرى، وجمل العرس يسير في الطريق مختالًا، فلا يوقفه أحدٌ، ولا يعرقل حركته.
أحبكِ حينما تسيرين بجواري في الزحامِ، أو حينما نتسلل في “الشارع الجديد”، أحبكِ وردةً عالقة بأهدابي، وأحبكِ سماءً تُشرق كل يومٍ على وجهي.
وفي الغربِ أشجارٌ سامقة، مسجدٌ وضوءٌ لا ينفذ، وشاعرٌ يكتب قصائده عشقًا في الحياة، يكتب عن حبيبته، وعن أمه، عن الأرض، والأخوة، عن زحامِ الشوارع، والوجع، عن الخوفِ، والحبِ، وعن الظلم.. ويمنح فتاةً صغيرة رُقية تحميها من الموت.
في الغربِ كل شيءٍ ممكن، طبيبٌ يعمل مدرسًا بالحصة، ومدرسٌ متخصصٌ في طب الأعشابِ، وشيخٌ لا يقرأ.. كل شيءٍ جائزٌ، لكن الحب صعبٌ صعب.
كرداسةٌ وليدةُ القدم، مغطاةٌ بالأتربة، والمطر يغسلها. وأنا الشاعر الذي لا يكل، كلما منحتُ روحي لعابرةٍ عادت إليَّ، وكلما رسمت بقصائدي قوس قزحٍ يعاد تشكيله.
أحبُ كرداسة، وأخوتي أهلها، في صغري ركلت كرةً فعادت إليَّ كبيرًا محملةً بالذكرياتِ والقصص، فأركلها مرةً أخرى في انتظارها مستقبلًا.. وأضع وردةً على قبر أمي قبل الرحيل.
أحمد سعيد