راح غدر
الخبــــر كان صدمة؛ والصدمة ليس في خبر الوفاة؛ بل في هذا الاسم الذى لا يمكن نسيانه.
كان هذا الاسم هو التحدى بالنسبة لى؛ هذا الاسم الذي كان بالنسبة لي النجاح أو الفشل.
أسرعت؛ ووصلت إلي بيت الشاب الذي توفى. كان من طلابنا الذي امتدت يد الغدر إليهم؛ وبكل خسة لا رحموه ولا رحموا أمه.
ذهبت….. وكلي ألم لأسرته؛ وقابلت “الأم” التي برغم حزنها قالت: عندما رأتني للجالسين هذه (أستاذة/ منال) مُعلمة ابني عندما كان بالحضانة, وكان يحبها جدا، وهي كانت سبب حبه للمدرسة والتعليم؛ وعشقه لمصر, واختياره أن يكون ضابطًا. وارتمت في صدرى وبكت ولا أخفي عليكم صعوبة الموقف، ظلت الأم ممسكة بيدى وكأنها تمسك بيد ابنها, وحاولت التماسك ولكن دموعي خذلتنى, وانهمرت وتذكرت ابتسامته, وجمال وجهه وروحه؛ ودار شريط الذكريات أمام عيونى.. هذا الولد ابني الذى علمته وشاركته الفرح والنجاح، هذا “الطالب الشاب” أو “الضابط الشاب” الذى كان علي أعتاب التخرج وتحقيق حلمه وحلم( أم و أب و وطـن). هذا الطالب الشاب الذى كان طفلًا في حضانة كنت مُعلمة “رياض أطفال” بها.
كان دائم البكاء؛ لا يدخل الفصل أبدًا ؛ ويظل طوال الوقت واقفًا خارجه حتى موعد الانصراف.
وكل يوم علي نفس الحال المديرة يأست، وكذلك الأم وجميع المدرسات؛ حتى المربيات؛ إلى أن الأمر وصل لحارس المدرسة «الأمن»؛ الجميع يعرفون كراهيته للمدرسة؛ وعنده؛ وبكاءه المستمر. وقررت مقابلة الأم؛ وطلبت من المديرة إبلاغ الأم بضرورة الحضور, وجاءت الأم وجلست معي وحكت عن حالة طفلها العنيد؛ وعلمت عنه كل شىء؛ وفكرت ماذا أفعل معه؟.
وقررت أن يكون التحدى بيني وبينه. _وعِند بعند_؛ وقررت بدء رحلتي معه، إما النجاح أو الفشل جاء الطفل ولم يدخل كالعادة، وظل خارج الفصل أحضرت كرسى؛ ووضعته خارج الفصل علي الباب وقلت: اجلس يا “يوسف ” نظر لى وقال: وبقوة وبشدة وصوت عالِ لا…..لا.
ضحكت و قلت: برحتك أنت حر أنت اللي رجليك هتوجعك؛ وتركته ولا أخفي عليكم شعوري بالغيظ منه؛ وقررت أن أراقبه من بعيد.
وبعد قليل جلس وبدأ ينظر لى, وقررت أن أبدأ أنشطتي مع باقي الأولاد والبنات؛ من لعب، وتعلم وقراءة حدوتة إلي آخر اليوم. وانصرف الجميع.
وفي اليوم التالي… حضــر الأطفال؛ وحضر يوسف؛ ووجد الكرسى خارج الفصل جلس عليه؛ وبدأت أحكي الحدوتة الشيقة؛ وكان بطل حدوتي ولد اسمه يوسف. وخطفت نظره وانتباهه لي وبشدة وانتهى اليوم؛ وقبل الانصراف.. سلمت عليه وقبلته؛ وكتبت علي يده بالقلم (أنا باحب ماما) واليد الثانية (ماما تُحبنى).
وانصرف مع والده, واستمر الوضع أيامًا؛ وأنا علي نفس منهج المعاملة، ولكن هو بدأ يتغير؛ شيئا فشيئا ؛و يتأقلم، ويتحرك ويلعب معنا.
وفي يوم كان النشاط عن التعرف علي “الحرف والمهن” المتعددة فى حياتنا؛ وبعد انتهاء النشاط، طرحت سؤالًا: ماذا تختار من هذه المهن والحِرف لتمثلها، ودونت اسم كل (ولد و بنت ) وأمامهم اختياراتهم، وكانت المفاجأة….
دخول” يوسف ” الفصل واختيار شخصيته واندمج معنا، ونسي أنه يجلس طوال اليوم والأيام الماضية خارج الفصل.
ومرت أيام….. وجاء ميعاد الحفل السنوى للمدرسة.
بدأت رحلة الإعداد للأدوار، والمسرحية وإعداد الملابس وتحفيظ الأولاد والبنات الأدوار وكان عملًا شاقًا وشيقًا، ولن أنساه طوال حياتي؛ واختار يوسف دور الضابط؛ وتمرن عليه
وفي يوم الحفل حضر كل أولياء أمور الأطفال لمشاهدة عرض المسرحية والتمتع مع أولادهم؛ وبعد الانتهاء من العرض الرائع، جاءت والدة يوسف وهي مبتسمة. وأول شىء سألتني عما كتبته علي يد يوسف, وما الهدف منه… ابتسمت وقلت إليها: ممكن تجيبى عن سؤالى؟ من فضلك. ماذا كان رد فعلك عندما قرأتي العبارة؟ قالت: ابتسمت؛ وقبلت يده وظننت أنه هو طلب منك هذا.. وسألتها: وهو ماذا فعل عندما قبلتي يده؟ ردت على: ارتمى بحضنى وظل يقبلنى.. قلت: لها هذا هدفي مما كتبت أن يشعر بحبك, وتعبرين له عن حبك، وبالتالي هو سيرد بنفس التعبير، هو يظن أنك تكرهينه وترمينه بالمدرسة؛ كل تفكيره أن المدرسة عقوبة. وأخبرتنى بأنه منذ ذلك اليوم وهو يعشق الذهاب للمدرسة وشكرتني علي مجهودي في تغيير سلوك ابنها، وطلبت مني أن أكون الأم الثانية ومن يومها أصبح ليوسف اُمين.
هذه بداية معرفتي بالشاب الذي توفي؛ واستمرت علاقتي بأسرته ولم أنقطع عنهم حتى بعد زواجي وتركي هذا المجال، وكبر الولد ودخل «ثانوى»، وكان يكلمني هاتفيا باستمرار ونتشاور ونتناقش وأحيانا نتعارك. وفي يوم بعد ظهور نتيجة الثانوية قرر أن يلتحق بكلية عسكرية (شرطة أو حربية). وبدأ في إعداد الأوراق واجتياز الاختبارات وفي كل خطوة كنت معه وأطير من الفرح وأشكر الله أنه اجتاز كل الخطوات ودخل يوسف ذاك الطفل الصغير الذي اختار يوم الحفل أن يقوم بدور ضابط مصري في المسرحية؛ وحفظ جملة صغيـرة.. جملة بسيطة.. ولكن عميقة غُرست بداخله الحـــــــــب والحماية؛ والشجاعة؛ والدفاع.
«أنا أحب مصــــــــــر.. أنا أحمي مصـــــــــــر) واليوم كتب اسمه في قائمة الشهداء.
وجاء صــــــوت الأم وقطع شريط ذكرياتي مع يوسف تفضلى يا أستاذة؛ أخذت من يدها دعوة لحضور حفل التخرج، مكتوب علي الظرف إلي من علمتنى معنى الحـــــــب؛ إلي (أمي منال). قالت لى: كان يريد أن تفتخرى به وأن تشاهديه يرتدى البدلة العسكرية. وشدتنى الأم من يدى، وقالت: تعالي هذه غرفته؛ ورأيت صورته وهو معي في الحفل (الحضانة) كان جميل بالبدلة (بدلة الضابط) وبجانبها صورته وهو شاب (بالبدلة العسكرية في الكلية) وورقة مرسوم عليها يدان (يد مكتوب عليها حب مصــــر؛ ويد مكتوب عليها حافظ علي العرض والأرض).. اندهشت جدا تعلم أول درس وظل في ذاكرته. عندما كتبت علي يد كل ولد وكل بنت…
(حبوا مصــــر؛ وحافظوا علي العرض والأرض)..
كنت أريد أن تختلط الحروف بأنسجة اليد ويتعلموا أن الحـــــب حياة؛ والعرض والأرض حياة. وهمست أمه..والدموع منهمرة
كنت حضرت الكتافات وعليها الرتبة لكي أضعها علي كتفه؛ اليوم تسلمت شهادة وفاته بدلا من شهادة تخرجه.
كنت منتظرة تخرجه ورتبت حفلة كبيرة من أجله.
واحتضنت بقايا بدلته الغارقة بدمائه وبكت وقالت: نم وارتاح يا بطل.
تركتها ونزلت ودموعي أغرقت وجهي ولا أرى أمامى؛ وكل جسدى يرتعش وقلبى يتألم. وتذكرت صوته الجميل لما كلمنى وقال: إنه قُبل بالكلية .
رحمة الله عليك كم أحببتك وفرحـت أن ابنى في الحضانة أصبـــــــح طالبًا عسكريًا وسيخدم الوطـن. سُرقت فرحتك وسُرق شبابك. لكنها إرادة الله_عز وجل_ الله يرحمك ويرحم كل ضباطنا الأحرار؛ وجنودنا البواسل.
مات الولد مات غدرا… مات الشاب مات غدرا.