الصحة النفسية

قراءة في كتاب: “سنوات المراهقة تَمُرّ بهدوء”  

د. فايزة حلمي 

       

إن سن المراهقة الآن أطول مما سبق, وعقل المراهقين مَرِن بشكل مدهش, هذه الاكتشافات الجديدة تجعل هذه الفترة من حياة أبنائنا, حاسمة في تحديد النجاح والسعادة في نهاية المطاف لهم,  وتجعلنا نغيِّر الطريقة التي نمارس بها تربيتنا وتعليمنا وتثقيفنا للمراهقين من أبنائنا, فإننا حين نلاحظ أن الطفل الرضيع لا يمشى, فإننا لا نعتبر ذلك عجزاً, كذلك المراهقة …ليست نقصا أو مرضا  أو عجزا, بل هي مرحلة من مراحل الحياة, حيث البشر فيها أقل نضجا, مما سيكونون عليه عندما يصبحون راشدين.

والبعض اليوم يري أن أبناءنا المراهقين أفضل مما كانوا علية من سنوات كثيرة مضت, صحيح أن كثيرا مما كانوا يرتكبوه قد خَفـَت توهّجه, لكن مازال هناك الكثير مما يحتاج لتصويب من سلوكياتهم, وكأن فريقا كان يحصل على المركز الأخير, ثم تقدم عن موقعه السابق, ووصل لترتيب أفضل, لكن مازال لم يصل لمقدمة الصفوف, فبعضٌ من مشاكلهم أقل مما كانت عليه فى الماضي, لكنها مازالت مرتفعة بشكل غير مقبول, فالأطفال يكبرون بسرعة فائقة لا يشعر بها معظم الآباء.

وهناك أيضا أدلة من علم الدماغ, أن الدماغ  ليس كامل النضج حتى وقت ما خلال أوائل العشرينات، وتطبيق مصطلح “المراهقة” على الناس فى هذا العمر, يتّسق أيضا مع ما تعلمناه من علم الأعصاب, وبغض النظر عن ما نطلق من تسميات، فإن الفترة الزمنية التي لم يعد الناس فيها أطفال ولكن لم يصبحوا تماما بالغين مستقلين أصبحت أطول وأطول، وقد خلق هذا استطالة المراهقة, وتسبب فى  التناقض الهائل والتضليل في الطرق التي نتعامل بها مع الشباب في المنزل، في المدرسة، وفي المجتمع الأوسع.

وقد حان الوقت لإعادة التفكير فى الطريقة التى نربي بها أبناءنا فى مرحلة المراهقة, وذلك بسبب الاكتشافات الجديدة فى علم دماغ سن المراهقة, والتي يمكن أن ترشدنا لأفضل طريقة نستطيع بها تربيتهم, والتعامل معهم, لذا هذه الاكتشافات فى غاية الأهمية.

علينا أن نعرف أن النمو يتأثر بشكل كبير بالسياقات المختلفة التى يمر خلالها رغم أنه عملية فردية, لأن المراهقين يدخلون ويخرجون يوميا فى العديد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية كالمدرسة والأسرة, والأقران, وكل البيئات التى يمرّون خلالها وتساهم فى نموّهم, مع الإستقلالية المتزايدة لمرحلة المراهقة, كل ذلك يعطى فرصة, إمّا للنمو السوي أو للإنحراف, لأن النمو المعرفى لا يتوقف حين يرن جرس المدرسة, والنمو الإجتماعي لا يتوقف بمجرد الوصول لمركز المراهقة, وفى الحقيقة أنه فى الوقت الذى نظن أننا لا نستطيع ولا يجب أن نسيطر على أبنائنا المراهقين, نستطيع حينئذ أن نرتب لهم, كيف يقضون وقتا مسلّيا آمنا, ونؤمّن لهم السياقات التى توفر لهم نموا صحيّا, وتقلل المخاطر التى يتعرّضون لها, وذلك يتطلّب معرفة بِنَمَاء المراهقين.

نحن نحتاج لأن نركز على أبنائنا المراهقين أنفسهم وإحتياجاتهم, لأن كل الإهتمام دائما ينصب على الأنظمة والسياسات, وعلى كيفية تقليل جرائم المراهقين, وفى المؤسسات التعليمية يكون الإهتمام الأكبر هو منع التسرب وزيادة المشاركة الطلّابية, أى يهتمون بالنتيجة, وكل ذلك الإهتمام كان يجب أن يوجه إلى العملية نفسها  أى “تنمية المراهقين”, أى التأكّد أنّهم جاهزون للكلية وللعمل وللحيـــــاة.

ومن المهم معرفة الطرق التى بها غيرت المراهقة نفسها فى السنوات الأخيرة, ولماذا يتصرف المراهقون بالطريقة التى يتصرفون بها, حتى نفهم لماذا يتّسمون بالسلوك المحفوف بالمخاطر, ولماذا يتصرفون بِتَهوّر خاصة حين يكونون مع بعضهم البعض, لأننا نعلم أنه بمجرد بداية سن المراهقة, فإن الهرمونات المرتبطة بهذا السن, تبدأ فى التأثير على الدماغ, وباقي أجزاء الجسم,  لذا يبدأ احتساب بداية سن المراهقة, مع بداية ظهور هذه التأثيرات, ونهاية فترة المراهقة تبدو بالاقتراب من تمام نضج العقل , أي حوالي سن العشرين أو أكبر بقليل, ببساطة تمتد الفترة بين عمر(10- 25) .

وفي ضوء ذلك يجب على المدارس أن تراعي أن يتضمن منهجها التركيز على مهارات غير معرفية, تشمل المثابرة والعزيمة, لمساعدة الشباب على تطوير القدرة على تأجيل الإشباع, لما بعد انتهاء السنوات الجامعية والحصول على وظيفة مناسبة, مع وجود دخل مناسب.

والمراهقة : هى مجموعة من المخاطر..المرونة  والفرص, ومرحلة متميّزة من مراحل دورة الحياة التنموية, وهي نظام متعدد المراحل, وعملية إنتقالية تتضمن التقدّم من النضج والتبعية الإجتماعية للطفولة..إلي حياة الراشدين, بهدف وتوقّع إستيفاء طاقات النمو, والقوة الشخصية, والمسئولية الإجتماعية,  كما أن  هناك تصور للمراهقة من قبل (جرانفيل ستانلي هول)، مؤسس علم المراهقين،  فينظر إليها كعملية “النهضة” الجسدية والنفسية والاجتماعية، وهي تركيبة  تنموية بدنية عميقة , مع تطور جوهرى للنضج, والتكامل الناشىء داخل الأسرة ..المجتمع ..والثقافة.

وتُعرف المراهقة بأنّها العِقد الثانى من الحياة, والمرحلة الإنتقالية من مرحلة الطفولة إلي مرحلة البلوغ, وهي فترة التغيّرات الكبيرة فى حياة الأبناء الصغار, وقت حدوث التغيّرات الجسمية بمعدل سريع, كما يتعرضون للتغيّرات المعرفية والعاطفية والاجتماعية, وأثناء نموّهم يتأثرون بالعوامل الخارجية مثل الآباء,الأقران, المجتمع, الديانة, المدرسة, الثقافة, وسائل الإعلام, وأحداث الحياة.

وهذه التغيّرات الجسدية المفاجئة والسريعة التى يختبرها المراهقون, تؤدى إلى أن تكون هذه الفترة من النمو, واحدة من تجارب الوعى الذاتى, والتى تتسم بالقلق والحساسية والمقارنات الطاحنة بين الذات والأقران, بسبب التغيّرات الجسدية التى لا تَحدث فى جدول منتظم.

وقد تنشأ نزاعات داخل الاسرة حول سلوكيات المراهق أو مظاهر تمرّده, ويحتاج الوالدان آنئذ حفظ السيطرة على إنفعالاتهما ليكونا مثال يحتذى به من المراهق, لأنه أثناء ذهاب المراهق وجدانيا ..بعيدا عن أسرته, يكون لمجموعة الأقران تأثيروأهمية خاصة لديه, حيث تصبح ملاذا آمنا يستطيع المراهق داخلها ..أن يجرب أفكارا جديدة, ويقارن معها النمو النفسى والبدنى.

كما أن فَهْم الأمراض النفسية للمراهقين, يجب ترسيخها فى التطور الطبيعي, لأن النمو الإنساني عملية مستمرة, لكن قد تكون هناك فترات حَرِجة فيها , وقد ينجح أو يفشل التَكيّف خلالها, والفشل له تأثير ثقيل  على مسار التطور اللاحق فى أي دورة حياة, والمراهقة هي واحدة من مراحل التحوّلات الحرجة,  حيث تتميز هذه المرحلة بالكثير من التغيّرات البيولوجية والنفسية والاجتماعية,  كما تمت ملاحظة أن عدد ومدى التغيرات التي تحدث فى مرحلة المراهقة فى وقت مُتزامن, تُمثّل فيما بَعد التحدّيات الرئيسية التى تمنع تكوين استراتيجيات مواجهة ناضجة وفعالة, لمواجهة السلوكيات التى تمثل مشكلة فى مرحلة المراهقة, وعدم وجود مثل هذه الاستراتيجيات الفعالة وقت احتياجها يؤدي إلي مظهر من مظاهر الأمراض النفسية خلال مراحل الحياة اللاحقة.

لذلك يجب البدء علينا ..التفكير فى مرحلة المراهقة بشكل مختلف, لحسن الحظ ، كان هناك نمو هائل في الدراسة العلمية للمراهقة, والخبر السار هو أن المعرفة المتراكمة، والتي تأتي من العلوم السلوكية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم العصبية، توفر الأساس المنطقي الذي يمكن أن يساعد الآباء والأمهات والمعلمين وأصحاب العمل ومقدمي الرعاية الصحية، وغيرهم ممن يعملون مع الشباب  علي أن  يكون أداؤهم بشكل أفضل,  وليتم فهم لماذا أطفال جيدون يفعلون مثل هذه التصرفات المؤكد أنها غير حكيمة, ولذا نتساءل:  لأن المراهقة كمرحلة من الحياة تتقلب من حالة لأخرى, مما يتطلب منّا إصلاح جذري   فكيف نُربّي المراهقين, وكيف يُنظر لهم دراسيا, ومن المجتمع؟.

ومن خلال معرفتنا عن نمو المراهقين, نتساءل: لماذا  ما كنّا نقوم به  لا يعمل؟, وهذا يوضّح لنا  كيف أننا نحتاج إلى تغيير سياساتنا وممارساتنا.

لذا الرحلة خلال سنوات المراهقة يمكن أن تكون أيسر إذا حرص الآباء والأمهات والأسَر, وكل من له صلة بمراهق أن يتعلموا الكثير عن حياة المراهق خلال هذه المرحلة,  ويعطوه دعمهم, لأن أغلبية المراهقين تكاد تكون سلوكياتهم متشابهة لأنهم غير متحمّلين للمسئولية, ودوماً ينتقدون آبائهم, ويرتدون ملابس غير مناسبة, وينفقون بغير حساب, ولا يقدرون ما يقدمه الأهل لهم, وقد يبدو أنهم يقومون بهذه الأفعال عمداً..فى حين أنها طبيعية تماماً فى مرحلتهم.

وهم يعتقدون أنهم يعرفون كل شىء, وتتراوح حالتهم المزاجية بين أقصي اليمين وأقصي اليسار, تتوافر فيهم كل المتناقضات, يدفعون الأهل للوقوف على حافة الجنون بتصرفاتهم..

فلماذا لا ندخل عالمهم..ونفهم دوافع سلوكياتهم غير المنطقية من وجهة نظرنا نحن   لماذا لا نقترب بحرص  وحذر و حب, لعالَم أبنائنا المراهقين  العالَم الغامض  العالم الساحر لهم    حتى أنه يفقدهم معقوليتهم.

إننا نحتاج أن نعرف لماذا المساهم الأكبر والأهم فى النجاح فى مرحلة المراهقة, هو التحكم الذاتي, كما نحتاج أن نعرف..كيف نجتاز بوابات عقول أبنائنا لنعرف كيف يفكرون,  لنعود بهم من شتاتهم بعيداً عن توقعاتنا منهم,  إننا نحتاج أن نكسب ثقتهم لندخل  سراديبهم العميقة التى يخبئون فيها عميقا    أسرارهم, إننا نحتاج أن نتعامل كوالدين بشكل أفضل مع أبنائنا المراهقين, حتى نستطيع وضعهم بشكل أفضل على    مسارات النجاح.

*مستشار نفسي وتربوي

مصر

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
زر الذهاب إلى الأعلى