أدب و ثقافةروايات و قصص

في السفر عجائب ومقالب،1الجزء الأول مصيبة في السماء

إيهاب فاروق

إيهاب فاروق
قبل أن نبدأ الرحلة .. كلام لابد منه
في الأسفار سبع فوائد هكذا يقولون, وقيل خمسة فوائد كما ينسب للإمام الشافعي عندما قال ..
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فـــــوائد
لم يقصد الإمام الشافعي طبعًا التخميس, فترك السبع فوائد واكتفى بخمس منها في عين العدو, رغم أن المسافر محسود محسود يا ولدي, خصوصًا من هؤلاء ذوي العيون الحسادة المدورة, وهي تتابع المسافر الغلبان وهو يتشعلق في ذيل طائرة, أو في أحبال باخرة, وربما في شكمان أتوبيس, ليسافر ويجوب بلاد الله الواسعة البراح, بعد الكتمة التي أصابته من الخنقة هنا, فيحسدونه عندما يتخيلون أنه مسافر فقط لكى يُعبيء الحقائب من هنا, ويُكيس الأكياس من هناك, ثم يعود بعد سهر الليالي والخدمة في أهل برة, حاملًا معه مخدة دولارات وأخرى استرليني وخدادية محشوة باليورو, لينام أخيرًا بعد أن يرش رشته الجريئة على أهل جوة !!
ومحبو السفر يعرفون جيدًا أن متعة السفر في مشقته, وأن الراحة بعد الوصول منه تزيد الشوق إلى التعب فيه مرة, فالعيون التي اعتادت على التغيير يقتلها ثبات الصورة, والعجائب التي تراها لأول مرة قد تزيدك نشوة, حتى ولو انقلبت إلى مقالب, ومن النوع “الغتت” أحيانًا, وهنا مربط الفرس .. المقالب .. والسؤال هنا
هل عانيت من مقالب أثناء السفر ؟
والإجابة هنا ستكون بسؤال آخر ..
وهل لم أعاني ؟!!
فأي سفر هذا الذي يخلو من مقالب مضحكة أو حتى مبكية, وفصول أقل ما يمكن أن يُقال عنها أنها “بايخة”, بل وعمليات من النصب علينا أحيانًا, إنها مواقف على صعوبتها, بل ورزالتها, قد تدعو للضحك عندما نتذكرها دومًا بعد العودة, ولو لم تكن للسفر أي فوائد, إلا أنك ستضحك من قلبك ولو قليلًا, فلنكتف بتلك الفائدة الواحدة, ولنضحك قليلًا على تلك المقالب التي يقع فيها الرحالة المسافرون !!

(1)
مصيبة في السماء

الراحة في السفر غاية يتمناها كل مسافر, لكن لا يدركها أي متعب أو سهران, أو نائم بنصف عين على كرسي صلب قاسٍ في صالة انتظار في مطار, فيصبح الحصول علي مقعد مريح في طائرة ستطول رحلتها من أقصي الغرب البارد في ألمانيا, إلي أقصى الشرق البارد أيضًا في الصين, هو غاية المراد من رب العباد .
لكن تبدأ متاعب السفر ومقالبه الباردة من وسيلة السفر ذاتها, فيبدو أنه لن تُكتب لنا الراحة في رحلة الصين هذه أبدًا, فقد بدا المسافرون في الطائرة وهم مكدسون على المقاعد كما العساكر في منطقة التجنيد, والكل يبحث له عن واسطة لكى يأخذ مخدة أوبطانية زيادة, مع غمامة للعين لزوم النوم الطويل, ورغم فخامة الطائرة الجامبو العملاقة ذات الدورين, بمقاعدها للدرجة الأولى التي وضعوها في الدور العلوي بالقرب من السماء, أما باقي الدرجات بما فيها الدرجة الاقتصادية, التي تنتظرنا نحن بالطبع, فقد كانت فخمة أيضا وعلى أعلى مستوى, وأفضل كثيرا من مقاعد صالون سيارة “ليكزس”, لكن كان كل هذا قبل جلوس السادة الركاب عليها, فالزحام كان قد حول الطائرة ومقاعدها كما مقاعد صالة سينما “ترسو” تعرض أفلامًا هندية في “إمبابة”, ولحسن الطالع أن إمبابة كان بها مطار أيضًا !!
ولكن احنا مالنا خلينا في موضوعنا, أو في رحلتنا هذه التي يبدو أنها ستكون مريحة جدا!!, خصوصًا مع ضيق المقاعد الواضح, والتي يبدو أنها مصممة خصيصًا لتلائم أجساد الصينيين من أكلة “النودلز”, لا أجسام المصريين أكلة “المحشي”, ولولا وجود مساند بين المقاعد لصارت منطقة منتصف الطائرة أكثر ازدحامًا من مترو حلوان, ولكن يبدو أن عدالة السماء قد نزلت على مطار “فرانكفورت” بألمانيا لا على استاد “باليرمو” بإيطاليا, كما كان يقول الكابتن “محمود بكر” رحمه الله, فقد فلتَ العبد لله ولله الحمد من الإنحشار وسط تلك المعمعة الصينية, والتي تحتاج للاعب جمباز لا إلى مسافر, حتى يغرس نفسه غرسا وسط المقاعد المتلاصقة, بعد أن يكون قد تعلق مرات فوق المساند وتخطى الحواجز السيقانية, الخشن منها والناعم والعياذ بالله .
لكن كان نصيبي في مقعد منزوٍ على جوانب الطائرة, وبجوار النافذة, والمفاجأة الكبرى أن المقعد الذي كان بجواره قد ظل خاليًا ولم تسكن فيه جثة أي راكب ضخمة كانت أم من النوع الفتلة حتى الآن, ويبدو أنني أصبحت على وشك الإفلات من مشهد متكرر في الأفلام العربي, رغم أن الطائرة كانت على وشك الإقلاع !!
بدأت نظرات الركاب النارية تتجه إلي, كانت نظرات يملؤها الحقد ويفيض منها الحسد, ولم يبق لي من هذه النظرات التي ثبتتني تثبيتًا سيدوم مداه مع هذا الطريق الطويل, إلا أن يقولوا لي “لحسة من قعر الطبق”, فأنا الراكب الوحيد الذي سيتمتع طوال الرحلة بتمديد رجليه إلى الأمام, والتمطع بكتفيه ذات اليمين وذات الشمال, ولن يضطر مع كل هذه الأريحية في الجلوس أن يقول لأي جار له ..
“Excuse me Sir/Madam ”
فسوف أظل أنا “السير” الوحيد .. وليس “المدام” طبعًا .. والعياذ بالله .. الذي سيستمتع طوال الرحلة بمشاهدة ثلوج جبال الألب الجميلة في سويسرا, وجليد جبال الأورال الفاتنة في روسيا, ومكعبات جبال الهيمالايا المجروشة في الهند, وربما أسعدني الحظ فأرى الثعالب التائهة بين ثلوج جبال التبت في منغوليا, إنما يبدو أنني وسط كل هذه الأحلام الثلجية, المجروش منها والمكعبات, لم أنتبه إلي الحقيقة المُرة !!
فكيف يفلت مقعد واحد خالٍ في تلك الرحلة المزدحمة من بين فكي مكاتب حجز شركات الطيران, وهي التي لو نفد منها حجوزات بني الإنس للمقاعد, فربما ستؤجر المقاعد الخالية الباقية لإخواننا من بني “بسم الله الحفيظ” من الجن, وربنا يجعل كلامنا عليهم خفيف, فبدأت أشعر بالخطر من ذوبان أحلامي الثلجية تلك, أمام كل ذلك “الصهد” المندفع علي من أفران حقد الركاب المحيطين بي, ويبدو أنني قد أخطأت فعلاً عندما لم أحصن نفسي من ذلك الحقد والحسد الرُكَّابي, بوضع “خمسة وخميسة” في عروة الجاكتة, أو ربما بتعليق فردة “شبشب” شمال مع “حدوة” حصان في سوستة “الهاندباج”, فعيون ركاب الطائرات دوما وحشة و”مدورة”, خصوصًا الصينية الضيقة منها, التي لن ترى أبدًا أي مساوئ في مقعدي, رغم أنني كنت بالفعل في أسوأ مكان بالطائرة, وسيظل خلو المقعد الذي بجواري هو عين الميزات, مع أنه يقع بجوار باب منتصف الطائرة تماما, وليس أمامه إلا حاجز ودرجتي سلم هابط لأسفل لكى تصل لهذا الباب الذي يستعمل عادة للطوارىء, أو بمعني أصح للهروب من الطائرة .
ربما كانت هذه هي ميزة المقعد الوحيدة, وهي أن الهروب من عليه إلى خارج الطائرة سيكون أسرع, عندما ترقد الطائرة بسلامة الله في أعماق بحر أو وسط صحراء أو بين صخور جبل, نقلق ساعتها راحة الدببة والثعالب الهفتانة منذ بداية الشتاء, أو أن تلقيني الأمواج تائهًا على جزيرة منعزلة لأصبح بطلًا جديدا ينافس “توم هانكس” في الجزء الثاني لفيلم “Cast Away”, إذا ما تبقى مني شيء يصلح طبعًا, ولم تتلقفه أسنان أسماك القرش الجائعة !!
وأخشى أن ذلك المقعد قد يقع فعلا من الطائرة, إذا ما شد الراكب الجالس عليه الحزام بقوة وعافية قد ظهرت عليه مؤخرًا, بعد تناول وجبة غداء فاخرة من الفراخ النمساوي في مطار فرانكفورت, لكني قلت الحمد لله أن لي كرسيًا داخل الطائرة أساسًا, فلو استطاعت شركتنا العزيزة بكرم إدراتها الحاتمي!! أن تحجز مقاعد لنا بجوار جزيئات الهواء الراقدة على جناح الطائرة لفعلت, وحجزت لنا عليها وبأعلى نسبة تخفيض أيضًا .
ورغم أنني كنت أبدو في جلستي هذه, وعلي ذلك المقعد المميز!! في أول صفوف مقاعد الدرجة الاقتصادية, وفي الركن, مثل كمسارية أتوبيسات العتبة وهم يصرفون التذاكر, لكن ظلت متعة الجلوس على مقعد وبجواره مقعد آخر خاليًا هي المتعة التي تفوق أي معاناة أخرى, بينما ظل كثير من القلق يساورني من نظرات عيون الركاب إلي, نظرات كان يمكنها أن تتحول في أي لحظة من مستوى الغيرة والحقد والحسد, إلى آفاق متقدمة من الشماتة والتشفي, فظللت أجول بعيني هنا وهناك, حتى ألمح إن كان هناك أي راكب جديد قادم, استدرك نفسه بعد مناداة كمسري الطائرة قبل الإقلاع ..
“نفر واحد الصين” ..
وكان ما كان, ووقع المحظور فوق رأسي مثل جردل الماء المثلج الذي كنت أخشى برودته, فقد أتى الفارس المغوار جاري العزيز, ورفيق سفري المقدر علي والمكتوب, والذي سيشاركني رحلة ستدوم ثلاثة عشر ساعة من الطيران, لأنتقل بعدها من مرحلة نظرات الشماتة والتشفي, إلى مرحلة نظرات الإشفاق ومصمصة الشفاه, على ما قد أصابني من مصيبة في الأرض, وستصعد معي قهرًا إلى السماء !!
نلتقي في الحلقة القادمة .. بئر بترولي من الشيكولاتة!!
إيهاب فاروق

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى