العقيدة و الدين

معاملات البنوك ليست كلُّها ربا

بقلم: حسام الدين عوض
لايختلف اثنان من المسلمين على أنّ الربا حرام، إلا أنّ الخلافَ مُستعِرٌ حول المُعَاملَات البنكية بصورتها المعاصرة، هل هي ربا؟ أم أنها ليست كذلك!
هذا وقد قسّم الفقهاءُ الربا إلى قسمين: الربا الظاهر (ربا النسيئة)، والربا الخفيّ (ربا الفضل).
كنتُ قد تكلمتُ في موضوع سابق عن النوع الثاني، أما في هذا الموضوع فسوف أتناول النوع الأول، وهو ربا النسيئة.

التعريف الشائغ لـ “ربا النسيئة” في كتب الفقه هو: (كُلُّ قرضٍ جرَّ نفعًا)
وقد قال بعض أهل العلم إنّ هذا التعريف مأخوذ من حديث نبوي شريف، والواقع أنّ هذا الحديث شديد الضعف، ولذلك قال كثيرون إنّ الربا هو: (كلُّ زيادةٍ على رأس المال مقابل الأجل) ، وأظنُّ أن هذا التعريف يحتاج إلى إعادة ضبط وتحرير، وإلا دخلت فيه صورٌ كثيرةٌ من المعاملات الصحيحة كالبيع بالتقسيط، حيث تقوم البنوك بتمويل عمليات الشراء الآجلة ..
وفي رأيي المتواضع أنه كان يلزمُ تقييد هذا التعريف الموجود في كتب الفقه بقيد : (للفقير المستحق للصدقة!) حتى يصيرَ تعريفا مانعًا جامعًا بحق.
وربما ليس هذا خطأ الفقهاء الأوائل -لأنّ الموسر في زمنهم لم يكن يقترضُ أصلًا- بقدر ماهو خطأ المعاصرين الذين نسجوا على منوال الأقدمين، في ذهول تام عن تغيّر الزمن وتعقّد المصالح!

في مجتمعاتهم العشائرية الأولية البسيطة القائمة على نظام المقايضة، كان الفقيرُ يقترضُ ليسدّ جوعه ويروي ظمأه، أما في زمننا حيث المدنية الحديثة والعلاقات المتشابكة ، فالغني يقترضُ قبل الفقير ليشتري سيارةً فارهة أو منزلا مترفًا أو حتى يُموِّلَ مشروعا استثماريًا لايقدر بمفرده على الاضطلاع به!
ثمّ إنّه قد ظهر في زمننا مصطلح (التضخم) الذي لم يعرفه الأولون، وتطوّر مفهوم (الدولة) التي صارت هي نفسها تستدين لسدِّ عجز الموازنة، وليصيرَ مواطنوها مدينين وغيرَ مدينين في آنٍ معًا!
ثمّ انتشر بيع السلع الاستهلاكية والمعمّرة والسيارات ونحوها فضلًا عن المنازل بنظام التقسيط (البيع الآجل) الذي تقوم البنوك بتمويله مقابل الربح.
كل هذا ولايزال الفقيه المعاصر واقفًا على أعتاب الماضي ينهل منه دون أن يراوح مكانه وبلا دراية كافية أو إحاطة تامة بمآلات الواقع ..!

كان الربا في الجاهلية قائمًا على تنمية الأموال بسبيل الجشع والاستغلال الماليّ للفقراء، فجاء الإسلامُ يحضُّ على الصدقة، ويحرِّضُ المؤمنين على الإنفاق، وعلى رعاية الفقراء والمساكين، والأيتام والأرامل، حتى لايكونوا نهبا لجشع المرابين.
ولهذا نجدُ الربا قد ارتبط بآيات الإنفاق كما في سورة البقرة (الآيات من 262 إلى 280)، وبالنهي عن الجشع البشِع الذي قوامه أكل الربا أضعافًا مضاعفةً كما في سورة آل عمران (الآية 130)
وفي معرض ذمّ اليهود ممن اعتادوا على ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل كما في سورة النساء (الآية 161)، وأوّل مانزل من القرآن في شأن الربا وضعه مقابل الصدقة كما في سورة الروم (الآية 39).
تلك هي المواضع الأربعة التي تكلّم فيها القرآن الكريم عن الربا، وسياقاتها في غاية الوضوح لكل ذي عينين، الانحيازُ للفقراء، وندب المجتمع للتكافل ومدّ يد العون لكل محتاج.
وعليه، فإخراج الربا من هذا السياق القرآني الضروري، لإصدار حكم عُمومي مُطلق على جميع المعاملات البنكية (تحريما أو تحليلا) خطيئة كبيرة في حق العلم والدين معًا.

صورة المرابي الجشِع الذي يكدِّسُ الأموال على حساب المُحتاجين والمعوزين بدلًا من أن يتصدّق عليهم من فضل ماله الذي رزقه به الله تعالى، هي الصورة التي نهى الإسلامُ عنها وتوّعد بشنّ الحرب على آكلي هذا الربا المستبشع المستشنع
وتلك الصورة من صور المعاملات الجاهلية التي شدّد الإسلامُ النكير في النهي عنها ، لم يعد لها وجود -تقريبًا- في أيامنا تلك كما كانت في زمن نزول الرسالة
فالربا الجاهلي الذي يقوم على استغلال حاجة الفقير الماسّة للطعام والشراب ، بُغية تكديس الأموال الطائلة، لاعلاقة له إطلاقًا بالمعاملات البنكية أو المالية المعاصرة
تلك المعاملات منها ماهو ربا ، ومنها ماليس بـ ربا ، ثمّ منها ماهو غش وخداع وتدليس كما سيأتي بيانه ..
البنك -في الأصل- وعاءٌ استثماريٌ ادِّخَاريّ يقوم على استثمار أموال المودعين (الموسرين غالبًا) بُغية تحقيق أرباح، فماداموا يزكّون ويتصدّقون، فأين الإشكال؟ لاهم فقراء محتاجين للصدقة أو متطلعين إلى العون المالي، ولا تلك المؤسسات المالية فقيرة محتاجة، حتى تنطبق صورة الربا الفاحش على هذا النوع من المعاملات.

ومع ذلك، يكون الربا في أحد صورتين حداثيتين:
1) إذا كان المقترِضُ شخصًا فقيرًا محتاجًا للصدقة (والبنوك -في الغالب- لاتقرضُ الفقراء بل تمنح القروض في مقابل ضمانات مالية لايملكها الفقير والمحتاج من الأصل).
2) أو كان المقترِضُ دولةً فقيرةً غارقةً في الديون، وبالزيادة في مقابل الأجل يزيد عنتُها، وتعظم مشقّتُها، وتكون عرضةً للغزو المسلح، فضلًا عن استلاب الإرادة وحق امتلاك القرار أو تقرير المصير!
هذا هو الربا المحرّمُ ، المنهيُّ عنه شرعًا، لأن الإسلام يحرِّرُ الإنسان من قيد كل سطوة أو سلطة أو سلطان أو صولجان
وإلا ..
فالمعاملة البنكية -غالبًا- داخلة في باب البيع الآجل (التقسيط) وهو حلالٌ، أو المرابحة التي ينتفعُ طرفاها من خلال المشروعات التنموية النافعة للأفراد والمجتمعات والدول.

فإذا قمنا بوضع عامل “التضخّم” في الاعتبار، فإنّ البنوك لا تأكل الربا كما يظنُّ بعضُ من لم يتحرّ العلم، لأنّ البنك هو أرخص شريك للمستثمر، وفي الحقيقة فإنّ أموال المودعين تتضاءل بإيداعها في البنوك بفضل التضخّم، فأين الربا ياجمهور العقلاء؟
وأمّا بخصوص المعاملات والصفقات التي قِوامُهَا السّندَات والأوراق المالية التي لاتساوي ثمن الحبر الذي كُتبت به، فضلا عن النقد الذي تتم طباعته يوميًا دون غطاء مقابل من الذهب (40% من النقد الدولاري المتداول في أسواق الدنيا قامت الحكومة الأميريكية بطباعته خلال العامين الماضيين فقط!)
صحيحٌ أن مثل هذه المعاملات ليست من الربا في شئ، إلا أنّها هي الغشُّ والخداعُ والتدليسُ المنهيُّ عنهم شرعًا، وعاقبة كلّ هذا واحدة في النهاية، لكنّ تسمية الأسماء بمسمياتها أعدل وأوفق ، والله تعالى أعلى وأعلم.

اظهر المزيد

حسام الدين عوض

مهندس مصري وكاتب وباحث في الشؤون الإسلامية ، حاصل على بكالريوس الهندسة ، ماجستير إدارة الأعمال ، دبلوم الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى