أدب و ثقافةروايات و قصص

فروق طبقية

حازم إسماعيل السيد

فروق طبقية!!
بقلم / حازم إسماعيل السيد
ما أجملها!.. ما أشهاها!
ما إن انفتح باب الشقة حتى بدت تزدان في حُلَّةِ جمالها.. كعروس الأحلام في ثوبها الأبيض المنتفخ الهائش.. أول ما تطالعك من وجهها عينان خضراوان يسلبان لُبَّكَ.. يخطفانك.. ينتشلانك من حاضرك ومستقبلك.. ينقشان في ذاكرتك صورة محفورة لا تمحوها الأيام.. ينتزعان ذكرياتك فلا ترى سواهما!
أخرجت ست البيت صفيحة القمامة كعادتها كل يوم.. يداعب النومُ أجفانها.. لم تغادر من النوم حتى ثيابه الرقيقة.. تلفُّ فوقه “رَوْبًا” يستر جسمها ، وتستتر بظلمة السلم خارج شقتها.. ووقفت قطتها البيضاء المدللة تتثائب في تكاسل داخل حرم شقتها لم تتخطَ عتبة الباب.. وإن هي إلا خطوة أو خطوتين خطتهما المرأة في الخارج حتى عادت أدراجها لتغلق الباب خلفها بعد أن خلَّفت الصفيحة في الخارج ليفرغها الزبَّال حين يأتي في موعده.. كانت هناك عينان يختبئ صاحبهما في الظلام على مقربة أمتار قليلة ترقب تلك العروس في حُلَّةِ بهائها وقد زادها الشريط الوردي الذي يلفُّ عنقها جمالاً..
لم يدرِ صاحب العينين الصفراوين ماذا أصابه حين التقت بصاحبة العينين الخضراوين؟!.. تسمَّر في مكانه، لكن سرعان ما عضَّه الجوعُ فانكبَّ على صفيحة القمامة الممتلئة يبعثرُ محتوياتها.. يبحث عمَّا يسدُّ به رمقه قبل أن تهجم قطط العمارة والعمارات المجاورة وتزاحمه عليها..
ازدرد قط الشارع ذو الملامح المعتادة طعامه محلى بذكرى صورة فتاته رائعة الحسن.. ومن يومها وهو يرابط على باب شقتها لعله يحظى بنظرة، ومن يدري فربما فاز بوصالها يومًا!.. من يدري؟!
انفتح باب الشقة على مدار اليوم مرَّاتٍ عدَّة لم يحظَ فيها برؤيتها سوى مرة أو مرتين على الأكثر، لكنَّها لم تكن تراه، كان يختبئ خلف صفيحة قمامة تخص الشقة المقابلة.. كان يخشى أن يقترب من باب الشقة أكثر فيلحقه من أصحابها الأذى.. كان يؤثر السلامة.. لكن يمر يومٌ من بعد يومٍ وشوقه إليها يزداد ورغبته في وصالها يشتدُّ.. لم يعُدْ ينزل الشارع.. كان يكتفي بقليل الطعام الذي يحصِّله من صناديق القمامة.. انقطع عن رفاقه ورفيقاته في الشارع.. قرر أن يقطع إليها الطريق على ما فيه من مخاطر.. انتظر حتى انفتح باب الشقة ولمحها داخلها تتدلل في غنجٍ ورقةٍ خلف قدمي صاحبتها.. ظهر في المشهد فجأة.. مَاءَ بأقصى ما استطاع.. التفتت إليه القطةُ فجأة، لكن سبقتها قدم المرأة إليه.. ضربته فانزاح من طريقها خطوات، ثم دخلت وأغلقت بابها عليها.. مَاءَتْ القطةُ الجميلةُ من الداخل، فميَّز القطُ حديثها عنه وربما إعجابها به.. خاطب نفسه في ثقة:
– إن كانت قطة ذلك البيت جميلة، فأنا أكثر قطط الحيِّ شجاعة وجرأة، وأشدَّهم قوةً وهيبةً.. فمن من قطط الحيِّ له رأس كبير كرأسي، أو مخلب يدٍ في قوة مخلبي؟!.. لن ينازعني عليها أحدٌ إلا غلبته!
كان القطُّ في الخارج لا يراها كثيرًا، لكنَّه كان على اتصال بها فحاسة السمع والشم لدى جنسه مرهفتين قد تتعارف بواسطتهما وتتواصل بهما أكثر من لغة العينين، وإن كانت لا تغني عنهما، لكن لا حيلة له في رؤيتها!
لم يمضِ على الأمرِ فترة طويلة حتى شاعَ أمرُها بين القطط لتزدحم درجات السلِّم وبسطته بعشراتٍ من القطط المتشرِّدة التي جاءت من ذلك الشارع والشوارع المجاورة بأشكالها المختلفة وألوانها المتعددة.. دبَّت الغيرة في النفوس، واشتعلَ التنافسُ، لتصبحَ المعركةُ حتمية النشوب.. يتحتم على القط أن يبسط نفوذه على منطقته وأن يطرد الدخلاء مهما كلَّفه الأمر .. لم يضيِّعْ وقتًا في التفاوض والتفاهم بالحسنى، فقد كانت الذكور مستميتة لاهثة أتت من حالة الضياع بالشارع إلى حيث المأوى، والطعام، والعروس المليحة ذات العينين الخضراوين.. لن يخسر الواحد منهم شيئًا حتى إن فقد حياته في سبيل إحراز ذلك النصر!
انتفشت القطط.. كشَّرت عن أنيابها.. أشهرت مخالبها.. اشتبكت جميعها في معاركها الجانبية، ونال القط نصيبه من القتال باعتباره صاحب الحقِّ في المكان.. القانون الساري عندها هو البقاء للأقوى، وهو لا يعوزه بأسٌ ولا قوة.. صدق ظنُّه فقد انكشف غبار المعركة ليظهر هو منتصرًا.. أثبت قوته على أقرانه.. أراها بأسه، وعرفت قدره.. لم يكن هذا الصراع عنها ببعيد وهي المُتنافس عليها!
أجهده القتال، وبدت آثار الإصابات واضحة على وجهه وجسده .. وأصابه الهزال والضعف ..
– لكن لا يهمني فأنا أصبحتُ صاحب النفوذ في المكان وفارس أحلامها.. لابد أن التقي بها فأفوز بقربها!
كان هذا كلامه في نشوة نصره.. لكن لم يكن حظه في رؤيتها موفورًا.. لم تزد فرصته في ذلك عمَّا قبل.. وفي فرصة مواتية فُتِحَ باب الشقة.. اقترب أكثر من عتبة الباب حتى صار في مواجهتها تمامًا.. اختال أمامها بجسده جانبي الخطوط، ورأسه الكبير الغليظ.. لم تجدِ محاولاته لنفش جسده في إخفاء ضلوعه البارزة أسفل جنبيه من الجوع والهزال!
وقف يرمقها بإعجاب من طرفي أذنيها حتى طرف ذيلها غزير الشعر المنتفش.. كانت في أكمل صحة بجسدها الممتلئ وفرائها الأبيض الناصع الكثيف.. كان خلفها طبق طعامها ممتلئ عن آخره بألوانٍ مختلفة من الطعام لا يتعرف منها إلا على رائحتها الطيبة، وطبق آخر مُلِئ لبنًا..
ابتلعَ القطُ ريقَهُ وقد شجَّعه وقوفها إلى جانبه أكثر فتسلل بحذر فاجتاز عتبة الشقة، ربما فاز بالطعام ورفقة الحبيبة.. وفجأة تندفع ست البيت من الداخل تمسك بمقشة غليظة دفعته بها بعنف، فقفز ناجيًا بنفسه، ثم دفعت الباب خلفه بقوة..
طفق يبحث في القمامة عن طعام يسد به جوعه بعد أن فشل فيما قاتل من أجله.. انفتح الباب فجأة، فانفتح له من جديد على أمله طاقة.. وسرعان ما تبدد الأمل فقد كانت المرأة.. وما إن رأته حتى نهرته بعنف وأبعدته عن صفيحة القمامة، لتفرغ ما فيها في صندوق آخر أكبر محكم الإغلاق، ثم أوصدت الباب خلفها!
تسلَّل القطُّ نحو سلة القمامة حاول أن يفتحها فعجز عن ذلك.. كان الجوع قد نال منه فانطلق إلى الأدوار السفلى يبحث فيها.. كانت جميع سلَّات القمامة موصدة.. لم تفلحْ محاولاته.. لم يكن أمامه سوى الشارع ليبحث فيه عن طعامه.. من جديد.. مشاجرات وصراعات مع قطط منافسة.. مضايقات من المارة.. كلاب الشارع.. سيارات مسرعة..
انطلق في طريقه.. ابتعد.. بذل مجهودًا كبيرًا في حملة البحث عن الطعام.. شاهد عدة إناث من القطط لم تستلفت نظره.. لا وجه للمقارنة بينها وبين حبيبة قلبه.. دفعه الحنين إلى قطته لعله يحظي بنظرة، أو يشنـِّف آذانـه بعـذبِ مـوائِهـا.. انطلـق إلى العمارة التي تحوي شقتها، كان يحفظها عن ظهر قلب.. موقعها.. درجات سلِّمها.. صورة عتبتها..
وجد باب العمارة موصدًا.. حاول أن ينفذ من بين قضبانه فلم يستطع.. كان كلُّ منفذٍ فيه مسدودًا بأسلاك حديدية ضيقة الفتحات.. لم يستطع الدخول.. انتظر على مقربة منه ليندسَّ بين قدمين داخلتين أو خارجتين.. تمكَّن بصعوبة من ذلك!
صعد درجات السلم.. مكث داخل العمارة ساعات.. أحسَّ أنَّه في سجنٍ كبير.. لا سبيل إلى طعام.. لا سبيل إلى قلب حبيبته.. لم ينفتح بابها مرة.. وجد نفسه ينتظر طويلاً في مدخل العمارة أمام بابها ليخرج خلسة كما دخل..
أخيرًا جاء الفرج.. سمع طرقات أقدام أحد السكان نازلاً.. اختبئ في ركن من أركان المدخل، وما إن انفتح الباب حتى انطلق فجأة خارجًا.. أفزع الرجلَ، وزوجتَهُ، وطفلتَهُ..
أخيرًا أصبح في الشارع.. حمد الله على الحرية.. بحث بكامل طاقته.. استعان بجميع حواسه.. لابد له من طعام.. لابد أن يتغذى ليقوِّى جسدَه.. لابد له من الحركة والنشاط لتشتد عضلاته.. فما زال موسم تزاوج القطط قائمًا، لم يَنْفَضْ بعد!
سيخوض معارك جديدة ليفوز بصاحبة النصيب التي ستكون حتمًا من وءمِه وينجب أبناءً يعيشون عيشة أبيهم..

** *** ** *** ** *** **

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
زر الذهاب إلى الأعلى