أدب و ثقافةالمقالات الأدبية

غياب العصر الرومانسي في الأدب العربي.

حسين جبار ( ديموزي)

الرومانسية، مصطلح متفق عليه ومختلف عليه في الوقت ذاته! فهو يمثل اتجاهًا ادبيا كبيرا في تاريخ الأدب الغربي، وهذا هو الجزء المتفق عليه، غير أن الجزء المختلف عليه هو ما يعنيه هذا المصطلح: فهو عند فكتور هوغو ((تحررية في الأدب، خلط الغريب بالمأساوي أو الرفيع (مما تحرمه الكلاسيكية)، حقيقة الحياة كاملة)). ويميز شيلنك بين المزاجين: الرومانسي والكلاسيكي، بقوله: ((المزاج الكلاسيكي يدرس الماضي، والرومانسي يهمله)). ونقيض هذا هو تعريف جفري سكوت، فالرومانسية عنده هي ((الوله بالمنقرض)). وهل هناك مصداق أبين للمنقرض من الماضي؟! أما عند ووترهاوس فهي ((جهد للهروب من الواقع)). ويصفها جورج ساند بأنها ((عاطفة أكرث منها عقل؛ القلب في واجهة الرأس)). ويشكل الخيال صلب الرومانسية بالنسبة لكل من نيلسون وهيرفورد وكازميان، فتعريفاتهم لها هي، على التوالي: ((خيال في تناقضه مع العقل وإدراك الحقيقة))، ((تطور يفوق المألوف لحساسية الخيال))، ((بروز مكثف للحياة العاطفية، تستثيرها أو توجهها ممارسة الرؤيا الخيالية، وهي بدورها تحرك أو توجه تلك الممارسة)). وهي أيضا ((انبعاث العجب))، و ((إضافة الغرابة إلى الجمال)) و ((الطريقة السحرية في الكتابة))، عند واتس-دنتن، بيتر، وكير. وهناك تعريفات أخرى غير هذه. فلو أردت تجميع هذه التعريفات كلها لسودت صفحات عديدة للإحاطة بمدلولات مفهوم الرومانسية. ولكن من الواضح أن الفكرة الأساسية للرومانسية هي أنها فتح لطاقات الخيال الخلاق والرؤى الحالمة وتصوير لأحلام اليقظة عند المرء، دون التقيد بحدود المنطق الصارمة. وهي خروج عن السائد المألوف، لذلك لا يصح تقييدها بالاتجاه، فنقول أنها تتجه بحنينها صوب الماضي أو تتطلع بفضولها صوب المستقبل، فقد يكون الماضي وجهتها عندما لا يكون هناك أفق للمستقبل، أو يكون الأخير هو كعبتها في حالة الماضي الذي لا يسر التطلع إليه، وقد يكون الماضي والحاضر كلاهما وجهة لها حين يكون الواقع أسوأ منهما!

ظهرت الرومانسية في انجلترا وفرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم تبعتهما فرنسا مطلع القرن التاسع عشر، واستمرت الرومانسية معظم القرن الأخير (التاسع عشر) قبل أن توجه إليها سهام النقد من أصحاب التيار الواقعي. والرأي القائل بأنها ظهرت كردة فعل ضد سيادة العقل والمنطق في القرن التاسع عشر، ليس رأياً دقيقا، فظهورها يتوازى مع ظهور النقد العقلي الذي صب جام غضبه على التزمت والتعصب اللذين كانا جاثمين على صدر أوربا. فإذا كان النقد الفلسفي في عصر التنوير هو خروج العقل على بقايا القرون الوسطى، فإن الرومانسية هي خروج القلب على تلك البقايا. لقد ظهرت الرومانسية ونمت واستطالة فروعها وأعطت الكثير من أكلها. ومثل الفاكهة، بعد أن تأخذ وقتها في النمو، قد نلتذ بطعمها أو قد نرميها لعفنها، هكذا واجهت الرومانسية مقصلة النقد التي لابد أن تضع تحت رحمتها كل تيار أخذ زمنه وأعطى امكاناته.
هذا في الجهة الغربية من الكرة الأرضية، أما في الجانب الآخر، عند العرب، فقد تأخر ظهور الرومانسية بما يقرب من قرن تقريبًا عن زميلتها، وقد كانت متأثرة بلا شك وإلى حد بعيد بالرومانسية الغربية. وليس غريبا أن يحمل رايتها الشعراء لا الروائيون، فالرواية العربية “الحديثة” مولود متأخر الولادة. ولم يبلغ هذا التيار الرومانسي ما بلغه توأمه في الغرب، فالتقليد لا يبلغ الأصيل إلا إذا وجد نقطة انطلاقه الخاصة التي ستفتح له مجاله الخاص. ثم إن هذا التيار وهو يحاول النمو هنا عندنا كانت تنهال عليه النقود هناك في الغرب، ولا شك أن الشعراء كانوا يطلعون على تلك النقود، الأمر الذي يخلق جو من عدم الإرتياح ويجعل الأديب في حيرة من أمره. ثم هناك الضغط الزمني، فحينما يصل إلينا تيار أدبي معين ويبدأ بمد جذوره في أرضنا تصل طلائع تيار جديد، وهو ما يمنع تفتح التيار الأول بشكل نقي، وهذا بدوره ينتج أدبا مختلط الألوان تم فيه ضغط عدة مراحل. مما يصعب مهمة فرز العصور الأدبية لدينا ودراستها بشكل يستوعب كافة جوانبها (الجوانب التي لم تظهر كلها أساسا).

وهذا لا يعني بالطبع غياب القامات الرومانسية العربية، فهناك على سبيل المثال جبران خليل جبران والمنفلوطي وغيرهما. غير أن هذا التيار (الرومانسي) لم يسمح له بالإنطلاق في خيالاته ورؤاه لتظهر كل امكاناته وطاقاته. الأمر الذي حرمنا من عصر رومانسي عربي.
لكن الواقع الذي تمر به مجتمعاتنا اليوم هو أرض خصبة لنمو تيار رومانسي هارب من هذا الواقع، وعلى الأغلب مختلط بلون من اليأس، وسيكون هذا أظهر في الشعر منه في الرواية أو القصة، لأن الشعر أوسع أفقا وأسرع انطلاقا ويمتلك حساسية ورهافة وتنبؤ أكثر بكثير من الأجناس الأدبية النثرية.
ديموزي

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى