
لسنا وحدنا
( ( لسنا وحدنا ) ) ، قرأت هذا العنوان ، ذات يوم ، لأحد الكتاب المحترمين العرب [1]، و توقفت حينها لبرهة ، هطلت عليّ الأسئلة ، و بدأت تغزل داخلي القصة تلو القصة . أول ما تبادر لي حين قرائتي لذلك العنوان المليء بالايحاءات ، خطر لي ، أن ماذا لو أضفت جاراً و مجروراً ؟ فصار ( لسنا وحدنا في هذا الكون ) !! لوهلة شعرت أن هذا الأمر كبير ، و كبير جداً ، فعدت لأقول ( لسنا وحدنا ، هنا ) فتوسعت حدقتا عيني ، و بدأتا تطوف حولي ، لم يكن الأمر أسهل ، فحاولت أن أختصر ، قدر المستطاع ، فظهر لي ( لسنا وحدنا ، الآن ) و ( لسنا وحدنا ، أبداً ) و هكذا بدا لي أنني أفتح عيني ، كرجل العصور الأولى ، للمرة الأولى ، و بدأت أجزم ، أن أول ما نظر اليه رجلنا القديم ذاك ، كانت السماء ، حيث نسب اليها كل ما لم يستطع تفسيره ، فمنها بدأ رحلته نحو تخيّل الرب الخالق ، فبدأ بعبادة ما يجول فيها ، ثم ، و بتطور لاحق ، جعلها منطلق الآلهة ، و مكان سكناها ، و ممارسة نشاطاتها ، و ثم ، و بتطور آخر ، جعل كل ما يخشاه ، أو يحترمه ، يجول فيها ، و من هنا أبدأ .
التنين على علم دولة بوتان
العنقاء كأسطورة
تشكل الأسطورة قاعدة البيانات الأعم ، و الأشمل ، للحضارات الاقليمية ، بشكل خاص ، و للبشرية بشكل عام . و لمرونة تلك الأسطورة ، و تجاوبها مع خصوصيات كل منطقة ، و تطورات كل زمن ، فان الأسطورة لطالما شكلت القواسم المشتركة ، و نقاط التواصل و التمازج بين تلك الحضارات المتواصلة ، و المتمازجة ، أساساً .
لقد قام أستاذنا ، الدكتور نذير العظمة ، بمجهود جبار من خلال حفريته الثقافية في أسطورة طائر العنقاء [2]، و أنا اذ أطلب الاذن لأستفد من ذلك المجهود المشكور في مقالي هذا ، أنقل لكم ما لفت نظري في تلك الحالة المتفردة لطائر العنقاء ذاك ، في أسطورتنا العربية ، و أساطير الحضارات المجاورة ، ذاك الطائر الذي شغل الكل ، و اتفق الكل على حالته الاستثنائية .
و أنا ، بمقالي هذا ، اذ أعيد قراءة تلك الأسطورة ، و من وجهة نظر خبيثة بعض الشيء ، أدعوكم للتحلي ، معي ، بذلك الفضول البخبيث ، و قراءة ما بين السطور بدهشة ، فالدهشة كما قال أرسطو بداية العلم .
التنين أعلى شعار نادي بورتو البرتغالي
طائر عابر للقارات
انتشر في حضارات الشرق القديم ، و روما و الاغريق ، ذكرُ طائر عظيم يملك مميزات سحرية خاصة ، فهو تارة يدخل النار و لا يحترق [3]، و تارة يبيض في تلك النار ، و تارة يموت و يحيا من نفسه الى ما لا نهاية [4]، و تارة يعيش دهراً[5] .و كما تعددت مميزات ذلك الطائر ، فقد تعددت كذلك مسمياته ، فقد كان ذلك الطائر يدعى في مصر القديمة ( بنو ) و قد كان يُعبد كروح لأوزوريس ، و يرمز الى تجدد الحياة من بعد الموت ، أما في جزيرة العرب ، فقد ظهر باسم العنقاء ، و قد أكد العرب وجود ذلك الطائر ، الا أنهم اختلفوا ، هل أبادها الله لدعوة أحد الأنبياء عليها ، أم أن تلك الدعوة قد حملت تلك الطيور ، و رمتها باحدى الجزر البعيدة . في فارس ، دعي طائر النار ذلك ، بالسيمرغ ، و قد شابه العنقاء الى حد كبير بما يرمز اليه ، أما عند الاغريق ، فقد عُرف بطائر الفينيق ، بل و اعتبروا أن موطنه الرئيس جزيرة العرب و مصر ، كما أكد هيرودت فيما بعد [6].
من كل ما سبق ، نرى أن الاجماع كان على وجود طائر ما ، بمواصفات سحرية استثنائية ، ظهر في كل تلك الحضارات ، و ترك أثره الواضح ، رغم أن ذلك الوجود ككل كان ضبابي الملامح .
التنين يحمي درع القديس جورج
العنقاء و العرب
اتخذ طائر العنقاء عند العرب كناية عن الذهاب بلا عودة ، فقد ذكر الجاحظ في كتابه الحيوان ( أن العرب اذا قالت بهلاك شيء و بطلانه ، قالت : حلقت به في الجو عنقاء مغرب ) فمن البديهي عند العرب أن ما تأخذه العنقاء لا يعود ، و لعل اضافة الجاحظ صفة البطلان للشيء ، فيها بعض النظر ، فالكناية هنا لا تتوقف عند حدود هلاك الشيء ، بل تتعداها الى بطلانه ، و نفي وجوده بالكلية ، و لا أدري ان أراد بذلك نفي المشبه به ( العنقاء ) و المشبه ( الشيء الهالك ) على حد سواء ؟
و قد لفتني بيت شعر لأبي نواس ، يقول فيه :
كأنها حين تمطو في اعنتها من اللطافة في الأوهام عنقاء
فمن بديع الصنعة أن يذهب المشبه به الى حد التطرف في الصفة المراد لصقها بالمشبه ، و هنا كانت العنقاء في منتهى اللطافة ، و تكاد تقارب العدم بذلك .
أعجبني ذلك البيت ، و أكاد أبني نظرية كاملة عليه ، كيف لا ؟ و ايحاءاته رائعة ، و غنية ، من امتطاء ، و أعنة ، و لطافة تكاد تقارب الوهم . هذه الأمور التي يمكن تسخيرها ، و بلعبة لغوية بسيطة ، نستطيع أن نتخيل شيئا يطير بحركة لطيفة هادئة تقارب السكون يقاد بأعنة ممن يمتطيه بخفة تقارب الوهم ، ذلك الوهم الذي يغلف وجود ذلك الطائر ككل .
العلم الويلزي
العنقاء بين الوجود و اللاوجود
لقد جزم مجد الدين الفيروزأبادي في قاموسه المحيط : ( انها طائر معروف الاسم ، مجهول الجسم ) [7] و هكذا لخص لغز ذلك الطائر ، و لكن هل فسر الماء ، بغير الماء ؟ فماذا عنى بقوله ، معروف الاسم ، مجهول الجسم ؟ ترى هل تمت الؤية حقا ، و عمّي على الرائي رواية التفاصيل ، نتيجة انبهار ما ، أو توهج ، أو لمعان ؟؟
بعودة الى مصر القديمة ، و طائرها ( بنو ) نرى أن اسم ذلك الطائر جاء من الفعل ( بن ) و الذي يعني أشرق و أبرق . هنا دعونا نعود الى فضولنا الخبيث ، و الذي يسأل داخلنا : و ما هو ذلك الطائر المومض ، المبهر ، المبرق ، المتوهج بالألوان ؟ و الذي لم يتمكن أحد من تحديد شكل معين له ، دفع بالفيروزأبادي – بعقلانيته – يجزم بمعرفة الاسم فقط ، دون الجسم ؟
و هل هو نفس الطائر الذي قصده أشعيا بسفره : ( كيف هويت من السماء أيها المنير يا ابن السماء يا قاهر الأمم ؟ ) [8]
أسطورة القديس جورجيوس والتنين
العنقاء ، و طيور الأبابيل
ذكر ابن منظور في لسان العرب أن طيور الأبابيل المذكورة في القرآن الكريم [9] هي طيور العنقاء المعروفة ، و في رواية لعكرمة ، مولى ابن عباس ، نقل فيها ما أكد رأي ابن منظور ، و في عودة لتلك القصة ، نرى أن تلك الطيور ، التي ظهرت لتقتل جيش أبرهة ، غازي مكة ، تلك الطيور كانت تحمل حجارة وصفت بأنها موسومة ، أي كانت كل حجرة تحمل اسم الضحية المراد قتلها ، و كأنها احدى الأسلحة الذكية التي انتشرت في الوقت الحاضر ، و لكن ، هل من رابط بين كل هذا ؟
طائر باسم ، و بلا جسد
اذا حاولنا جدلا أن نوحد الأسماء العديدة التي أطلقت على صديقنا الغامض ، و سلمنا بأن الفينيق الاغريق ، هو عنقاء العرب ، و هو بنو مصر ، و هو سيمرغ بلاد فارس ، فاننا ، و رغم مقولة الفيروز أبادي المنكرة لمعرفة جسد ما لهذا الطائر الضخم ، فاننا نجد أن ابن منظور [10]يصف ذلك الطائر بأنه لايُرى الا في الدهور ، و ذلك دلالة على غموضه ، و طول عمره [11] ، و بنفس المسار ينقل لنا المسعودي [12] عن ابن عباس قوله أن الله خلق ذلك الطائر على شكل وجوه البشر ، هنا يخطر لنا أن نسأل : هل كانت العنقاء بجسد طائر ، و رأس انسان ؟ كما وصفت سابقا في الهند ، و هل كان أبو الهول هو عنقاء مصر ، و هل عنى فلوبير العنقاء ، حين وصف السيمرغ ، بأنه يحمل وجها بشريا ، بأربعة أجنحة ، أم أنه تأثر بالمعتقدات الوثنية ، و الدلالة السحرية للرقم أربعة ، و الذي يدل ، حسب تلك المعتقدات ، على المكونات الرئيسية للحياة ، الماء و الهواء و التراب ، و النار .
العنقاء كما تخيلها كتاب تاريخ نورمبورغ
في اليونان ، نقل لنا هيرودوث ، أن عنقاء الاغريق ، الفوينيكس ، قريب الشبه جدا بالبشر ، في الهيئة ، و الحجم ، فكيف نوفق بين مقولة هيرودث هذه ، و ما نقلته لنا الحضارة الفارسية ، حيث كان عنقائها ، السيمرغ ، كبير الحجم ، و اسمه الفارسي مشتق من الكلمتين ، سي : و تعني : ثلاثون ، و مرغ ، و التي تعني الطائر ، و التي تشكل بمجموعها ( ثلاثون طائرا ) ؟ هل من الممكن أن يكون هيرودث قد خلط ما بين الطائر ، العنقاء ، و الموصوف بالضخامة ، و بين من امتطى ذلك الطائر ، و وصفهم بالشبه الشديد بالبشر ؟
هنا تهبط علينا الصورة الرائعة التي وثقها لنا نبي الله حزقيال في وصفه لملاك الرب الهابط عليه بأرض المنفى ، العراق ، و حافظ على تفاصيلها كتاب العهد القديم [13] ، و التي تكاد تكون مذهلة ، و مفحمة بكل ما حملته من تفاصيل ناقشناها سابقا ، و نرى من الممل اعادة روايتها مرة أخرى .
إنها دعوة صادقة لقراءة التاريخ ، بتأن و هدوء و بدون أي تجريح .
نافذ سمان
[1] أنسي الحاج ، جريدة الأخبار اللبنانية ، خواتم
[2] سفر العنقاء ، نذير العظمة ، مطبوعات وزارة الثقافة ، دمشق 1996
[3] كما نقل لنا الدميري في حياة الحيوان الكبرى
[4] كما في الحضارة الرومانية
[5] قد يجاوز الخمسمائة عام
[6] كما عرف في الهند باسم جارودا ، و في الصين ، و التي ميزت بينه و بين طائرها الأسطوري الآخر التنين 0
[7] البابي الحلبي و أولاده ، القاهرة ، 1952
[8] أشعيا 14 : 12
[9] سورة الفيل : 2
[10] في لسان العرب 0
[11] قدرها هيرودث بخمسمائة عام 0
[12] في كتابه مروج الذهب
[13] بما أن النص المذكور لم يكتب الا بعد تلك الحادثة بحوالي الربع قرن 0