روايات و قصص

عنب ومانجا \ أ. هشام عيد

أوراق حلاق \ الورقة الثالثة

الأستاذ كمال، المحامي الشاب، يحلِق ذقنه. لست أدري لماذا يعتبره شرفًا كبيرًا لي أن يحلق عندي.. في محلي الصغير.

يتحدث بجسارة فيصدر أحكامًا عامة قاطعة في أي مجال.

بدا لي أنه لا يحدثني بقدر ما يعلمني من خبرته الكبيرة في الحياة والقانون. عادي، صالون الحلاقة مكان عريق لإثبات الحكمة والنفوذ.

يتحدث عن خطيبته بدون مبرر ليسوقَ فلسفته فيقول وهو يضع ساقًا فوق الأخرى “أنا باروح مرة كل شهر؛ الواحدة لو شافت الواحد باستمرار الغموض ينكشف”.

تسمع في صوته رنّة إعجاب الإنسان بأفكاره وفهمه لكل شيء؛ أشعر أنه ليس إنسانًا حقيقيًا.

قدرتي على الرد “بأنك بذلك تحرم نفسك منها” كانت ضعيفة..

قلما يعارض الحلّاق زبونًا سخيَّ اليد.

دخل ضياء القهوجي. حين يدخل ضياء المحل تشعر أنه طلعَ من باطن الأرض، خفيف وسريع، لا يمكن أن يمضي بدون “لستة مشاريب” وسماع ما يقال والتدخل بتعليق خاطف، يكاد يدس أنفه في معجون الحلاقة.

صمم الأستاذ أن أشرب شيئًا على حسابه.. ترددت فأصدر أمرًا حاسمًا “هاتله يابني قهوه مظبوط، من البن بتاعي”.

أومأ مدلِّلًا أنها ستعجبني، توسعت مساحة صوته فجأة عندما دخل سامح، وهو شاب قصير هادئ الملامح “مبتعد” متواضع الزي في حوالي الرابعة والعشرين، اكتسب وجه الأستاذ مسحة عظمة وفَهْمٍ وأردف – بغير داعٍ –:

“علّمتني الحياة ألا أثق في موج البحر والنساء”

جلس سامح بعد أن حيَّا الأستاذ بتقدير خاص فسأله:

“إيه أخبار الحلمية يا مستر سامح، الإنجلش ماشي كويس؟”

ردّ الفتى في إيجاز واحترام مبتسمًا: “حلوة”

فقال المحامي التجاري: “وكل يوم بتحلو أكثر”

– بدا في عينيه وهو ينظر إليّ أنه يقصد شيئًا خاصًّا عميقًا–

رددت على الأستاذ لمجرد المسايرة: “هي طول عمرها حلوة”

انفجر ضاحكًا ونظر إليّ بما يعني أني أفهمه فشعر سامح بالحرج ثم وجّه الأستاذ حديثه مباشرة إليه وقال غامزًا لي بعينيه:

“فاهم وعارف اللي بيحصل.. في الحصه.. ها.. هئ هئ”، ثم تابع بصوت خبير: “ما دام سلمتلك يبقى مش هتنساك”

نظر الفتى إليه في وجوم فأردف المحامي سميك الجلد وهو يعوج جانب فمه الذي أحاطته رغوة الكريم الكثيفة:

“ما تقلش حاجة، أنا فاهم، دول جيراني، أنا باقولك الخُلاصة”

دخل ضياء بالبن “بتاعه” فقال له: “هاتله لمون يا ضِيا”

ما زال مُصرًّا أن يختار لكل واحد مشروبه.

قال سامح في صوت أشبه بالصمت: “خُلاصة إيه ؟!”

قال بنبرة أستاذية:

“لسه الحياة هتعلمك، بس الخلاصة زي ما قلتلك.. في السن ده وتحب و.. هاه.. ياسامح.. هئ هئ”

“أستاذ كمال بعد إذنك ممكن تسمعني.. الحقيقة …”

“أنا مليش دعوه بالحقيقة أنا ليا المستندات، أنا محامي، أنا عارف.. هتحبها وهي تتجوز واحد تاني، بس مش هتنساك، أينشتاين بيقولك إيه؟ إن الله لا يلعب بالنرد.. دا قانون، قصة قديمة.. تبدأ عندك وتخلص عند واحد تانى”.

أوقف المحاضرةَ دخولُ الأسطى محمود النجار ليملأ “دِيسك” الغراء ويخرج مسرعًا:

” إيه ده.. أستاذ أبو العريف عندنا”

انزعج الأستاذ كمال حين رآه ولم يرد، انطفأ في لحظة وجوده تمامًا، أشار لي باستئناف العمل، كنت قد توقفت تمامًا أثناء المحاضرة. بدا الأستاذ حزينًا، أما سامح فقد ازدحمت في داخله الأفكار، ألجمته فكرة أن سيرة حبيبته قد وصلت لهؤلاء “الكبار” وفي صالون الحلاقة.

انتهت الحلاقة، أخرج رزمة مالية كبيرة، أعطاني منها عشرة جنيهات:

“مش عايز باقي، خلاص، الفلوس مجرد ورق، خلاص خلاص”

ليته يأخذها ويتوقف عن هذه “الزفه”

قال سامح في وجل وصِبَا: “يا أستاذ كمال، كنت عايز أقولك …”

أراد أن يحدِّثه بعيدًا عن صالون الحلاقة.

خرج الأستاذ، وضع يده على كتفيه وهو يمضي به بعيدًا متخطّيًا دكان الأسطى محمود النجار الذي يكرهه، وقف به أمام سعدون الرفّاء الذي قام محيِّيًا الأستاذ في إكبار مُبَالغ فيه ثم جلس.

استكملا حديثهما وكنست دكاني.. وددت أن ألقي العشرة جنيهات لكنني اكتفيت بنفخة غيظ.

عاد سامح ليحلق. ظل صامتًا طوال زمن الحلاقة…

أنا الذي رشحته لأبيها منذ سنوات حين كانت “أميرة” في مدرسة “سان فنسان دي بول” العريقة وكان هو في ثاني أعوامه بكلية التربية قسم اللغة الإنجليزية، المادة الأقل أهمية في مدرستها، مَثَّل لها فارقًا هائلًا في المستوى، علَّمها مخارج الأحرف وحُسن السمع وطلاقة التعبير، اتَّبع معها أسلوبًا حرًا متدفقًا وجديدًا، بعد الحصة يأخذها إلى مكتبة “عم وهبه” فيختار لها من القصص ما يناسب مستواها ويترك أمر الحساب لأبيها..

هو أيضًا استفاد من تدريسه لها، تدرج معها حتى وصلت للثانوية العامه، عاملها بتقديس كالملائكة.. كانت بالفعل راقية وسلِسة القياد، ناعمه تعشق البرقوق والقطط الصغيرة، كانت لُثغتها الرائية تشجيه، الفارق في السن والفكر بينهما أخذ يضيق مع نضجهًا جسدًا وعقلًا حتى كاد يتلاشى. نظرتها الصافية له لم تتكدر بمهنة أبيه الفكهاني الذي يفترش الشارع.. لم تكن تخجل أمام زميلاتها أن مدرسها هو الفكهاني ابن الفكهاني.

تخرج في الجامعة بتقدير جيد جدًا، تقدير هائل لمن في ظروف خيرًا من ظروفه، طار بالحلم فخورًا إلى أبيها، تجرأ وطلبها يدها.

نظر أبوها للأرض صامتًا، كان يلوك شيئا مرًا تحت لسانه، بدت مرارته من انطباع وجهه، ساد صمت كئيب.. هدأ كل شيء في لحظة، النجاح والتقدير والفخر.. هبط كل طير على الأرض .. قال في هدوء مخيف

“بكم كيلو العنب؟”

اندهش سامح لكنه أجاب:

“بجنيه ونص”

“والمانجه؟”

“بسبعتاشر”

“ينفع اللي معاه جنيه، حق العنب بس، يشتري مانجه؟”

“معلش.. مش فاهم”

أربد وجهُ أبيها وهو يقول ببطء:

“يعني كل فوله وليها كيال،”

تغيرت نبرته وبدت نظرة عينيه قاسية وهو يرفعها ببطء:

“لو قربت من بنتي تاني أو كلمتها لا حتبيع منجه ولا عنب.. امشي”.

بقي واقفًا في مكانه غير مستوعب.. ألقى أبوها أجر الدرس الشهري فطارت الأوراق في الشارع كأوراق الشجر…

أصبح لقاؤها منذ ذلك اليوم بعيدًا كثمار النخل العالي.

كانت هذه سابقة الأحداث قبل يومين من لقائه بالأستاذ كمال في الصالون…

انتهت الحلاقة، ظل مطأطئ الرأس، لم ينظر إلى المرآة ولم نتبادل خلالها كلمة واحدة، تركني وهو يشغلني.. ثم شغلتني رؤوس أخرى.

ما بين العصر والمغرب يتسم شارعنا بالهدوء، تنحسر الشمس عنه تمامًا، العمائر المصطفة على جانبيه تقيد الظل ككلمة بين قوسين، يبدأ عمال الحاج رشيد صاحب معرض الموبيليا في رشّ الماء فتُطلَي الأرض بلون رمادي محبب، وينكفيء سعدون الرفّاء على قطعة ملابس، رافعًا عينيه بين لحظة وأخرى باحثًا عن أي فرية يبتلي بها أي جار أو يهتز ضاحكًا بلا سبب واضح. ويجلس “عم وهبه” ساكنًا أمام كتبه. لحظة غامضة يسكن فيها كل صوت ولا يدوي في الشارع سوى صوت “عم محمود” بين أخشابه وهو يقرأ سورة “يس” مخطئًا في كل أحكامها.

بعد المغرب عاد سامح ضائع النظرة، قال بين أنفاسه اللاهثة :

“مصيبة!!  ناس م القسم بتدور عليَّا.. أخدوا أبويا من ع الفرشة”

نظرت إليه في صمت.. لست أنا الشخص المناسب للتعامل مع قسم الشرطة، أحدهم أبلغ أباها أنه ما زال يقابلها. زوجة المأمور من أهم الزبائن في كوافير أبيها.

قلت له: “الأستاذ كمال.. ما فيش غيره، وربما ضياء”.

أيها الأستاذ النبيل، هل نظروا إليك نظرة التقدير تلك؟ هل قالت أعينهم وهم يشدُّون على يديك: “أنت رجل شهم نبيل حريص على جيرانه، تعرف كيف تعامل موج البحر والنساء؟”

طوال اليوم وسامح يذهب ويعود وهو أشد حيرة وعذابًا، لا توجد كلمات لوصف حيرة عينيه.. كلما عاد لي زادت مساحة الشجن والفراغ في عينيه ثم انقطعت الأخبار تمامًا.

غاب عني فترة، وبدوري أصابني القلق عليه، أصبحت عنصرًا أساسيًا في القصة وأنا المنزوي في مخبئي عن العالم.

خرجت أتلصص الأخبار، صدمتني سرعة الحياة، العالم بالخارج في غاية الإتساع وسيارات كثيرة متضاربة الاتجاهات.. روحي تتشعب.. لا بد أن يتم الأمر بسرعة قبل أن تنفصل ذاتي عني.

لم يكن عند الفَرشة وكانت الفاكهة وحدها، حائرةً أيضًا.

قابلت أحدهم، ميزو، يبدو أنه تَبَرَّعَ برعاية “الفَرْشَة”سألته:

  • ما شفتش سامح؟
  • اتنين عساكر جم خدوه.. سعدون الرفا قال لابوها.

سعدون الرفّاء بدين، أثقل وزنًا، لكن قربه من المنزل ومتعة الإيذاء والإكبار المجاني الغامض لذوي السلطة منحوه الرشاقة فكان الأسرع في الإبلاغ.

 

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى