
أحمد سعيد
عصفور عجوز
أتحسس طريقي مثل عصفورٍ فقد منقاره في معركته الأخيرة..
ظل يهمس باسم عصفورته التي ضلت الشجرة.
الجبال المتراكمة من الأوجاع لا تنتهي، تجاويفها تقتل الروح، ومغاراتها تُضل الخُطى.
أنا متسلق الجبال، كلما ألقيت حبلاً نحو القمة، تُخلق قممًا أخرى، وأظل أدور في دوائرٍ لا تنتهي.
معلمةُ الفصل تخبرني بأن الخط القبيح دليلٌ على العبقرية، فأتمرن كثيرًا؛ حتى أنفي عني التهمة، وأترك نفسي في آتون الزحام.
لا شيء تغير يا أمي منذ رحيلك، الوجع هو هو، والطريق لا ينتهي.. هل ينتهي يومًا يا أمي؟!
هل سأجدك في آخره، تنتظريني بكوب الشاي، وطبق كعك العيد؟!
أخبرتكِ ذات يومٍ، بأن الأيام تشبه بعضها البعض، فنعتيني بالمتشائم.. وها هي الأيام تتكرر بمللٍ. أصفف شعري على الجانب الأيمن أم الأيسر، أربي ذقني أم أحلقه.. كل هذا لا يغير حقيقة التكرار، حقيقة الملل.
ظمآن يا أمي، وأنتِ النبع، وليمونة البيت، فهل تعودين بأوانيكِ الباردة، وعصائرك الحلوة؟!
كعصفورٍ أعمي، أتخبط بين الأفرع الجافة، أبحث عن شيءٍ سقط مني، فأسمع صوت حبيبتي، يأتي من عمق الذكرى، تضحك بنعومةٍ، تخبرني بأنها تحبني، وأنني بارد كالثلج.. فأذوب بين يديها، وأستكين بين ذراعيها.. وعلى غير عادة القدر يُرد بصري فجأة، فلا أراها أمامي.. وكأنها لم تكن يومًا هنا، وكأنني لم أسلك طريق حبها.
أنا هنا يا حبيبتي، أستند على عمود الإنارة مهمومًا كآخر مرة رأيتك.. أستند على كل أعمدة الهم يا حبيبتي ولا تكفيني، وكعادتي أدفن كل ذلك خلف قناعٍ ساخر، آهٍ يا حبيبتي، كم أشتاقِ إليكِ، كم أشتاق ليديكِ الناعمتين، وعينيكِ الساحرتين، وصوتكِ القادم من الجنة.
غرقنا في عمق الحكاية، فلم نرَ شيئًا، والآن أنظر من أعلى، تتدلى قدماي استرخاءً، كل شيءٍ من هنا يا حبيبتي سواء، الوقت لا يعني إلا المزيد من الفقد، والمزيد من النتوءات التي تُحفر في القلب.. فلما العجلة، وكل شيء بلا معنى بعدكِ؟!
لما التسرع يا حبيبتي؟!
وردتنا الذابلة، ما تزال قابعة ككل الورود الذابلة على رفٍ باكٍ في غرفتي.. وراقصا التانجو اِنفصلا بعد أن سقطا من على سطح المكتب فكسرا.. وصورتكِ القابعة بمحفظتي لم أعد أنظر إليها.. هه ظننت بأنني هكذا سأنساكِ، لم أعرف بأنها وشمت على جلدي، وحفرت بروحي.
أسير كعجوزٍ رأي كل شيءٍ، وعلم.. فصرت لا مباليًا.
لا يهم إن سرت في هذا الطريق أو ذاك، لا يهم إن حادثتني فتاةٌ يانعة عن جاذبيتي، وسامتي، وعن صوتي الآخاذ، لا يهمني إن ظلت تثرثر عن عمق كلماتي، وعن جمال مشاعري، وعن عينيّ البنية وذلك الارتباك الذي تسبباه لها.
أجلس كعجوزِ ينتظر على المقهى مرور الزمن، يلقي النرد.. ويعلم في قرارة نفسه، بأن النرد خوفٌ، وقلقٌ، وأنا الآن لا أقلق، لا أخاف.. وكل النتائج سواء.
الماءُ سلسبيلٌ من حولي، وأنا زاهدٌ في كل الينابيع سواكِ.
كحطابٍ أقطع أغصان الدنيا، فتنبت على جسدي أفرع كثيرة، أقطعها هي الأخرى، لكنها تجتاحني، فتصير غابةً تؤلمني بكل ضواريها، وصوت ضحاياها الحزانى.
سأرحل ككل الراحلين، سيستقبلني أبي، سيضمني كثيرًا، ويعطني كرةً أهرول بها في السماء، ستقف أمي باسمة كعادتها، وسأغمز لها من بعيدٍ، وأنا أختبيء.
سأعود ككل الأطفال المفقودين، لحضن أمي وذراعيها المحيطين العالم دفءًا، سأعود ولدًا مشاكسًا، أصعد شجرة المانجو أمام البيت، وأتسلق نخلتنا جالبًا بلحًا لها؛ لترضى. تهمس “أحبكَ كثيرًا يا أحمد”، فأشعر بألمها فجأة، فأراها مسجاةً بجواري، تخبرني بأن التعب انتهى، وبأن ساعة الوجع توقفت أخيرًا.
آهٍ يا أمي، لقد كبرت، وصارت كل النخلات حولي توشك على السقوط.. صار طعامكِ الذي أعددتيه لي قبل رحيلك بلا مذاق، لقد أخذتي معكِ المذاق، وصرت بعدها لا أتذوق أي من الأطعمة. أنا جائعٌ يا أمي.. أنا جائعٌ.
أحمد سعيد