
الجمعة 6 أكتوبر ..
عزيزتي ..
كيف حالك في الأيام الخوالي ؟ أحببت أن أحدثك عما جرى معي من قبل ، فقد كنت أركب الحافلة صباحا كعادتي عند ذهابي للكلية .. جلست كعادتي في المقعد الخلفي الذي آرى من مجلسي فيه مختلف الناس رؤية العين ، وجدت امرأة مسنة لا تجد مقعدا في الحافلة ، قمت من مكاني لأجل أن تجلس بدلا من أن تتهشم قدماها حالما تصل لشبرا .. جاء محصل النقود ليأخذ مني العشرين جنيها مخبرا إياي بأنه سيبحث لي عن الباقي .. عندما وقفت لدقائق مرت أحسست بشعور غريب .. أحسست بعينين تنظران نحوي تكادان أن تخرقاني خرقا ، نظرت خلفي حيث المقاعد الخلفية ، فوجدت عينين سوداوين لفتاة لا يظهر وجهها الذي يظهر قمحها في جبينها ، كان الكرسي يواري ما جمل منها وجهها .. ترى من تكون تلك الناظرة نحوي ؟ حاولت ألا ألفت انتباهها بأني قد كشفت عينيها ، وفي لمحة من لمحات النظر نحوها ، وجدت وجهها الوضاء قد كشف أمام عيني .. ولدهشتي الشديدة وجدتها أنتِ عزيزتي .. لم أدرك كيف تركبين معي الحافلة !.. لم يحدث قط أن ركبتِ حافلة !.. وصلنا نحو المؤسسة دون أن أنظر نحوك مرة أخرى .. وجدتك تمرين من خلفي بردائك القرمزي خارجة من الباب .. ولكن لم تكن وجهتك المؤسسة ، فتعجبت بشدة .. فخرجت جريا خلفك بسرعة .. وجدتك تقفين فوق المصطبة الكبيرة قبيل الموقف .. أتيت من خلفك قائلا :
– السلام عليكم .
التفتت نحوي لتكون مفاجأة اليوم .. لم تكن الفتاة أنتِ ، لقد كان خيالا كاذبا .. قالت لي مبتسمة :
– أفندم .. تحتاج مساعدة ؟
– لا آسف .. ظننتك شخصا أعرفه .. أنا آسف .
مبتسمة قالت :
– لا تكل هما .
نظرت خلفي ، لم أجد الحافلة .. لم أحزن لرحيلها أو لأن الفتاة لم تكن أنتِ .. لقد حزنت لأني نسيت الباقي مع المحصل .. وضاعت العشرون جنيها .. بلا فائدة .. هذا ما أحببت أن أقصه عليكِ من الحدث الغريب .. وإن لأحداثا غريبة تحدث معي كثيرات .. قد أقصها عليكِ في وقت لاحق .. أذكرك بأن اليوم هو عيد النصر .. فكل عام وأنتِ طيبة على الرغم من غرابة المناسبة .. وأذكرك بصلاة السادس من أكتوبر التي فرضها علينا حاكمنا المبجل في الصباح .. مع تمنياتي لكِ بالتوفيق رفيقة الخيال ..
****
الجمعة 11 أكتوبر ..
عزيزتي ..
وددت أن أحكي لكِ عن مظهر عابر حدث أمام عيني منذ ساعات .. لم أعتقد يوما بأن القدر سيصل بذلك البلد إلى تلك الحال الصعبة .. وطن يموت ببطء شديد .. حبات الرمل تزحف من القمة للدرك الأسفل كالسلحفاة على زجاج الساعة الرملية .. نظرت إلى المهمشين الذين يعيشون على هامش المجتمع الفاسد ، الواقفين بعيدا عن مطعم العم سند للفول والفلافل التي نسميها بالطعمية .. كان العم سند يقف مقلبا أقراص الطعمية في الزيت المحترق .. ولو كنت مكان هؤلاء الناس المتألمة بطونهم من هول الجوع لسمعت حسيس النيران التي تلتهب أمامك في الصحن .. هنا فقط تدرك ألأناة .. وتقرقر المعدة وتضج بما تحمل من الإعياء .. ولكن لم يكن بيدي أن أساعدهم سوى الدعاء لهم بالصبر واجتياز المحنة ..
دخلت إلى المطعم ، وقلت للعم سند :
– تاسلام عليكم يا عم سند .. أريد مائتي جنيه طعمية أربع طعميات وبخمسين جنيها فول .
أرجو يا عزيزتي بعد قراءتك للرسالة أن تحرقيها دون ذكر لما بها من مساوئ قد تودي بالنفس للاكتئاب المهلك .. دمت بخير طيبة كما أعاهدك دائما رفيقة خيالي ..
***
الجمعة 30 نوفمبر ..
عزيزتي ..
مرت مدة منذ آخر رسالة لكِ عزيزتي ، ولكني أدركت أمرا هاما كدت أن أنساه ، فقد عرفت يوم ميلادِك ، وأحببت الاحتفال به اليوم بنهاية نوفمبر .. أتيت بالكعكة وشمعة على شكل رقم تسعة عشر ، ها قد بلغتيها بعد عناء ، وانتظرت حلول منتصف الليل في ظلام الغرفة لأقول كل عام وأنتِ بخير .. ودق جرس المنزل يرن ، فخرجت أفتح الباب لأجد صديقي قد جاء لزيارتي ، فأجلسته معي بالغرفة ، وقد هاب الموقف الذي أعددته من الشمع والكعكة الكبيرة ، فسألني :
– أعيد ميلادك اليوم ؟! ألم أحضره منذ سبعة أشهر ؟!
– لا إنه ليس عيد ميلادي ..
جاء ليتحدث ، ولكن .. دقت ساعة منتصف الليل ، فأطفأت الشمعة مؤذنا بعام قد مر عليكِ أيتها الغالية ، وناولت صديقي قطعة من الكعكة في طبق ليأكله بالشوكة ، وأكلت ما أمامي أنا أيضا ، فسألني :
– ألن تضيء الغرفة ؟
– لا هكذا أفضل .. فهي تحضر خيالي في الظلام ..
– ولكن من هي ؟
– إنها رفيقة الخيال التي أقيم لها عيد ميلاد ..
– إذا فمولدها كان اليوم ؟
– لا لا .. لقد كان منذ ثلاثة شهور وبضع .. ولكني قد أدركته متأخرا ، فقمت بالاحتفال ..
وأخذ صديقي يضحك مني ، ولكنها ليست غطتي أنني قد غفلت عن موعد ميلادكِ ، فأنت بالنسبة لي كنجم بعيد في السماء يسطع بضوء فيروزي ينير لي الحياة ، ولكن ضوءك لا يأتيني قبسه إلا بعد وقت طويل يقطعه في الفضاء السرمدي .. فأعذريني على التأخير .. كل عام وأنتِ بخير رفيقة الخيال .. مع تمنياتي بالتوفيق دائما ..
***
الجمعة 21 ديسمبر ..
عزيزتي ..
آسف على تأخر خطابي ، وسأحاول ألا أطيل الفاصل بين كل خطاب وتاليه .. في جلسة ظهيرة تذكرتك ، فأمعنت التذكر ، تذكرت المرة الأولى التي حدثتك فيها ، أذكرها تماما بتفتصيلها ، فأحببت إعادة كتابتها ، فهي لحظة لا تنسى .. دلفت إلى المدرج بمبنى الأقسام بكلية الهندسة حيث محاضرة الكهربية ، وعند ذلك المقعد الذي تحبين الجلوس عليه ، رمقتك بجمالك المميز من بعيد .. اقتربتُ وجلستُ بجانبك قبل وصول أصدقائك .. أخرجتِ هاتفك ، وجعلتي تقلبين فيه ذات اليمين وذات الشمال ، ووضعته على المنضدة أمامك ، وانتظرتِ وصول الدكتور ليلقي علينا محاضرته التي نحاول فك طلاسمها فكا .. وانتهزتُ الفرصة حينها .. وقفت ، وطلبت منك أن تخرجيني من المقعد ، فخرجت لي عن الحافة لتسمحي لي بالخروج ، وابتعدت قليلا عنكِ ، وجلستِ مكانك شاردة الذهن ، رجعت إليك بعد ثوان ، وقلت لكِ :
– أظن أن هذا يخصك .. وجدته ساقطا على الأرض ..
نظرتِ إلي وأنا أمد لك يدي بهاتفك ، والدهشة تملأك بشدة ، نظرتِ للمنضدة ، فلم تجديه ، تناولتيه مني قائلة :
– شكرا يا بشمهندس ..
– استسمحك أن تدخليني مكاني ..
– تفضل ..
وحينها رأيت ابتسامتك البراقة الجميلة .. لم تعلمي بأنني قد أخذته خلسة عند خروجي من المقعد دون أن تنتبهي له .. كم أنتِ جميلة حقا ! وكم هي جميلة تلك الذكرى .. وأرجو أن نستعيدها مستقبلا ونحن معا ..
مع حبي ..
أحمد محمد مغاوري قشوة