أدب و ثقافةروايات و قصص

طعم الجوع

سيد عبد النبى محمد

طعم الجوع
عقاربُ الساعةُ تشيرُ إلى الثانيةِ صباحاً ، زخاتُ المطرِ الخريفىِ تتساقطُ مترنحةُ على زجاحِ البارِ ، عّدلَ من جلستهِ ، وأخفى جسدةُ داخلَ معطفةُ السميكِ الأسودِ ليحتمىَ من برودةِ الجوِ ، رائحةُ الأنفاسِ المحيطةُ به وخيوطُ الدخانِ المنسابهِ فوقَ رؤسهمُ تعبّقُ المكانَ وترسمُ رؤساَ من الشياطينِ تسبحُ هائمةَ فى فضاءاتِ المكانِ وهم يتناوبونَ خسائرهم على الطاولةِ الخضراءِ ، وكئوسُ النبيذُ المعتقِ تدورُ بينهم يبتلعونِ منها ما بقىِ عالقاَ على قطعِ الثلجِ من خمورِ .
ضاقتْ نفسةُ عبدُ الجوادِ حسانينَ وأنسحبَ من بينهم وقد زادتْ خسارتهٌ فى هذا اليومِ ، ولم يكن إنسحابةُ لخسارتهِ فلقد تعودَ الخسارةَ وهو الذى يلعبُ لا ليكسبَ ولم تهزهُ جنيهاتهُ الكثيرةُ التى رحلتْ عنهُ لغيرةِ ولم تكنُ الخسارةُ أو المكسبُ بالأمرِ الذى تهتزُ له أعصابهُ أو تكهربُ نفسهُ ، وكان يتعاطىَ خسارتهُ ومكسبةُ بلا مبالاةِ بينَ رشفاتِ الكئوسِ ومداعباتِ الأصدقاءِ ويتناساها بمجردِ إبتعادةَ عن مائدةِ القمارِالخضراءِ .
ولكنه كفَ تلكَ الليلةَ عن اللعبِ بغيرِ إرادتهِ بعدَ أن دارَ داخلَ عقلةٌ حوارٌ غريبُ وخمارُ دارَ برأسةِ فرغبَ فى تنسمِ هواءِ الخريفِ الباردِ بالخارجِ ومراودةُ نشاطةِ بالمشىِ والحركةِ .
ومالبثَ أن نهضَ ضاحكاَ كأنَ مسَ أصابةُ وأعتذرَ وغادرَ المكانَ ، وكان الطريقُ مقفراَ والجوُ باردا فسرت فى رأسةِ الساخنهِ قشعريرةِ مرغوبة وقرةُ عينِ وسكينهِ .
قرر أن يقطع الطريق الخالى من البشر والذى يعكر سكونه هدير محركات السيارات المسرعة وطرطشات الماء المذعورة وهى تفر مسرعة من بين عجلاتها على أرض الطريق .
تباعدت خطواته وقفز مسرعا يعبر القنطرة العابرة لفرع النيل والتى كانت خالية من البشر إلا من الصوت الرتيب لتساقط حبات المطر وإصطدامه بكآبه غلى الأرض ، وعندما بلغ الثلث الأخير من الممر لاحت منه إلتفاته إلى الجانب الأيمن من القنطرة ليرى رجلا رث الهيئة فى جلباب ممزق وقذر ينحنى متقوسا على السور ملقيا برأسة إلى النهر .
تعجب عبد الجواد حينما إقترب من الرجل والتفت إليه ولم يرى وجهة إلا بعدما تخطاة ظانا أنه مخمور قصد الإستناد على السور ليفرغ ما بجوفة كعادة بعض الذين يفرطون فى الشرب ، أو مخمورا غلبه النوم فإستندعلى سور القنطرة ، وما لبث أن إقترب من الرجل حتى رآة يقفز بحركة مباغتة على السور ثم توثب كأنما يلقى بنفسه إلى النيل .
إندفع عبد الجواد بسرعة وبدون تفكير بعد أن أخذته المفاجأة ، أمسك به فى اللحظة الفاصلة من يسراه وأطاح به إلى الخلف بشدة فسقط على إفريز السور بدلا من أن يكون سقوطة فى النهر .
إنفعل بشدة وتدافعت أنفاسة وسقط بعفوية فوق الرجل ممسكا به وهو يختلج بشدة وخوف وأخذ يتفرس وجه الرجل الذى هانت عليه الحياة ولاحظ أنه ضعيفا هزيلا ذى نظرات زائغة ووجة شاحب ووجنتين مصفرتين ، فصاح به وقد أراد أن يطبق عليه بكلتا يديه ضاربا مستنكرا ومعاتبا .
– ماذا كنت فاعلا بنفسك ؟
لم يرد عليه الرجل الهزيل ، إنفرجت من بين أساريرة زفرات من التوتر والخنوع .
إقترب منه الوجيه أكثر معتقدا أنه سوف يشتم رائحة الخمور الضاربه فى فمة وحلقة ، لم يشتم أى رائحة للخمور ولكنه إشتم رائحة ملابسة القديمة الرثة الممزقة.
– هل كنت حقا تنوى الإنتحار ، لماذا ؟ دعنى أشتم فمك ، هل أنت ثمل ، أم مجنون ، تكلم يا حيوان !!
رد الرجل بصوت مبحوح ، متلعثم والكلمة تخرج باهته ضعيفة
– أنا جائع !!
نظر اليه عبد الجواد بإستغراب فقد أيقن أن معظم ممن يدمنون تناول الخمور يجيدون أيضا فن التسول ليجمعوا ثمن شرابهم وهم فى العادة لا يكفون عن ذلك .
– كذبت ، إن الكلاب الضالة تجد ما تأكلة ، ولن أصدق أن إنسانا مات جوعا قبل ذلك فى هذه البلدة ، أراهن على إنك تدمن الحشيش والمخدرات .
قال الرجل بنبرة حزينة
– لك عذرك ، فأنت لم تعرف طعم الجوع ، هل ذقت الجوع ؟ هل بت ليلة بعد ليلة من عض أنيابة ؟ هل ثقب أذنيك عويل أطفالك وهم يعانون من نهش معداتهم الخالية ؟، هل باتت أطفالك يوما يمضغون الحشائش وطين الأرض من الجوع ؟
– وإذا لم تكن عندك الإجابة ، فلماذا تمنعنى من الخلاص من عائلة الجوع ، وبؤس الحياة وقسوتها ؟
إرتعدت فرائض عبد الجواد ونهض من فوق الرجل حزينا مرتعدا والحيرة تملأ قلبة.
– أتعنى حقا أن لك زوجة وأطفالا ؟
إنهارالرجل باكيا بعد أن جلس مترنحا مستندا على سور المعدية وأخذ يلطم بكلتا يديه على وجنتية .
نعم كنت يوما ما قادرا على الزواج !! وعشت سعيدا مع أولادى ، وكنت أعمل بجد وتفانى وأعود إلى بيتى سعيدا راضيا بلقاء أولادى وأمى ، إلى أن كان اليوم الموعود الذى ذهبت فيه إلى عملى مبكرا كالعادة وفوجئت بأن الأمن يمنع دخولى مع بعض العاملين بحجة الإستغناء عنا ، رجوت صاحب المصنع وإنحنيت أقبل يدة ورجلة طالبا منه أن يكفينى قوت أولادى وعائلتى لأن حملى كبير وثقيل نهرنى قائلا أن مصلحة العمل تقتضى ذلك وأنه لا يعمل لدى وزارة الشئون الإجتماعية ،
وخرجت من المصنع أسير فى الطرقات هائما أبحث عن عمل وعدت إلى أولادى فى هذا اليوم خالى الوفاض وتبعته أيام وأيام وأولادى يتضورون جوعا وزوجتى باعت كل ما لدينا فى البيت ، وكانت صورة أمى المريضه الهزيله وأولادى الجوعى النائمون على حصيرتهم البالية تقطع نياط قلبى العليل .
إلى أن جاء اليوم الموعود والذى رجعت فيه إلى بيتى مهزوما أعبر الطرقات بدون وعى وصراخ أطفالى يملئ قلبى ورأسى ، ونحيب أمى المريضة وهى تتوجع من الألم والجوع يكاد يقتلنى ، سرت هائما فى الطرقات أمد يدى لكل من القاهم أمامى محاولا أن أجمع أى نقود لشراء دواء لأمى وخبز لأولادى وتحولت إلى متسول يتلقفنى البعض بالحسنة ويقذفنى البعض الآخر باللعنة ، طرقت جميع الأبواب وذهبت إلى جميع المصانع والشركات والمحلات وكنت أعمل يوما وأجلس عاطلا شهرا ، وأعود إلى أولادى ليلا وهم نائمون على حصيرتهم وصوت بطونهم الخاوية يطاردنى ، أتلوى من الألم وأبكى بدموع تملأ الكاسات ، وتفرست جميع الوجوة لأحد أمى وقد ماتت ، نعم ماتت وهرولت اليها باكيا مستعطفا أن تحيا وتمهلنى لأطعمها ، رجوتها أن تعود وألا تموت جائعة متوجعة .
أدركت أنها ماتت وهذا ما كانت تتمناة لترفع عنى حملا ثقيلا القاه قدرها على كاهلى ، ماتت أمى وأنا ضعيف هزيل ، لم أقوى على مساعدتها ، صرخت ، صرخ أطفالى وبكا الجميع حولى وهى ممددة بيننا هزيلة لا يغطيها سوى جلبابها الأسود البالى ، وهرول إلى بعض أصحاب الخير ، وقاموا بدفنها فى مدافن الصدقة ، وعدت إلى بيتى وأولادى وقد قام أهل الخير بإطعامهم والتصدق عليهم ، وأصبحت بينهم عليل لا أقوى على الحراك ، مكسور النفس والفؤاد .
كان الصباح ، كل صباح وكل يوم كئيبا مملا كريها مذلا ، ننتظر الصدقة التى كان القدر يرسلها الينا بين الحين والحين ، وتحاملت على نفسى وقررت أن أخرج وألا أعود لأريح أولادى منى وكانو فى حالة نوم وثبات عميق بعد أن رزقهم الله بطعام ساخن عل يد أحد الصالحين .
وزحفت إلى القنطرة وإلى السور وحاولت أن أعتليه وأسقط نفسى أسفل النهر وأنتحر ، وأتيت أنت لتعيدنى مرة أخرى إلى الجحيم ، أنت تعذبنى ، أنت تعيدنى مرة أخرى إلى الموت كل يوم مرات ومرات .
إعتدل عبد الجواد ، نظر بألم إلى الرجل الهزيل المتكوم أمامة ، لقد كان هو السبب الرئيسى فى محنتة وشقائة ولأنه كان يملك المصنع الذى كان يعمل فيه وتذكر وجهة جيدا وبكى بعد أدرك سوء فعلته ، وكانت الإجابه على السؤال الذى حيرة دوما لماذا هو حزين رغم وفرة مالة التى يخسر منها الكثير كل ليلة ، تكور على نفسة وبكى ، إحتضن الرجل القابع بلا حراك بجوار السور الخشبى العتيق ، هو يحكى مأساته ويمسح بيمناة شلال دموعة .
فكرة الموت إستبدت بى بعد أن رجعت إلى بيتى ولم أجد زوجتى ، لقد رحلت إلى اللا وجود تاركة أولادى السته يتضورون جوعا ، وقفت بينهم شريدا عاجزا ، وفكرت فى عجزى وعذاب أطفالى وشقائهم قلت لنفسى إنه ربما عندما أختفى من حياتهم تتغير أحوالهم لأنى أصبحت عبئ عليهم ، والقيت بنظرى إلى النهر طويلا ، وإستسلمت لليأس ثم توسبت لألقى بنفسى ، ولكنك جلت بينى وبين ما أريد ، هذا كل ما هنالك ، فهل أدركت الآن شر ما فعلت ؟
وكان عبد الجواد يستمع إلى الرجل ويصغى اليه مصطبرا ويعمل فكرة فسألة .
– هل إذا تركتك الآن تعود ؟
– فقال الرجل أعود لماذا ؟ للإنتحار أو البيت ؟
– قال عبد الجواد : البيت طبعا !
– قال الرجل : الإنتحار أسهل فالبيت أصبح لى عنوان عجزى .
– وإذا أعاننى الله على قضاء حاجتك وإزالة عجزك فبدلا من ترك أولادك الصغارعالة فسوف يعانون أكثر مما يعانون معك فأنت لست عادلا ، أتهرب من قدرك ، وتعتقد أن فى ذلك حل لمشكلتك ؟
– يا أخى أنا عربيد وسكير وصاحب مال أرسلة الله اليك من بين رفقاء السوء ، لقد أرسلك الله إلى عبرة وعظة ، ووالله الذى لا إله غيرة لن أخذلك ، إذهب غدا إلى المصنع الذى كنت تعمل فيه وستجدنى هناك فى إنتظارك ، وهذه بطاقتى خذها معك وقدمها لمن يعترض سبيلك ، ودس فى يدة مبلغا من المال وخلع معطفة والقاة على كتفة بعد أن أعانه على الوقوف ولأول مرة يشعر بالإرتياح وكأنه يتناول كوب من الماء البارد يطفئ به سخونة جوفة .

سيد عبد النبى محمد

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى