
صفاء حسين العجماوي
شظايا البلور
دلف إلى المكان بأعتداده بنفسه الذي أعتاد الجميع على تفسيره أنه غرور وغطرسة بل تكبر وخيلاء، ألا هي. تلك القصيرة السمراء التي استطاعت بعينيها الطفولية أن تخترق قشرته الصخرية لتصل إلى قلبه الثلجي المظهر. شرد ذهنه إليها، فتحركت عينيه تبحث عنها تلقائياً. أنبأه قلبه بأنها قريبة منه، غير أن عيناه فشلت في العثور عليها.
لفت أنتباهه تجمع عشوائي متداخل بين الشباب والفتيات، يحيط بما بدى على البعد كطفلة صغيرة متكورة على ذاتها تبكي. شعر بدبيب الخوف يسري في فؤاده، فأسرع الخطى نحوهم. تناهى إلى سمعه صوت شهقات ونهنهات تقاطع البكاء. أنه يعرف صاحبتها، أنها هي فتاته. قطع الخطوات الباقية في خطوة واسعة. أفسح له الجميع ليصل إليها، فوجد صديقتها تحتضنها رغماً عنها ظانة أنها تهدئها. بنظرة واحدة حازمة منه أطلقت رفيقتها صراحها. أنتبهت فتاته لتحررها من بين ذراعي صديقتها، وللصمت الذي ساد المكان، ففتحت عينيها ببطء لتلتقي بعينيه القلقة.
لم يسألها ما بها، فقط قال لها بصوت قلق، ولكن بنبرة حازمة: هلا قدمتي معي
لم تعارضه، كما أنها لم تتوقف عن البكاء. تركته يرشدها حيث يريد، فثقتها به جعلتها تسلمه قيادتها.
دقائق ليست بالقليلة أوصلتهما إلى حديقة بسيطة شحيحة الأزهار، ولكنه كان يعلم أنه ما بها من خضرة تكفي لتهدئها. أشار نحو مقعد خشبي مرتفع، فتحركت نحوه في آلية، وجلست مطرقة نحو الأرض، ودموعها التي تحررت أخيراً من خلف أسوار القوة التي تخفي طفولتها خلفها أبت ألا تنهمر. جلس على الأرض قبالتها ، ولم ينبث ببنت شفة،وأكتفى برفع وجهه نحوها. لتلتقي الأعين، وتبدأ حديثًا خالياً من الحواجز لأول مرة.
ضاع في عينيها، وهو يرى تكور الدموع في مقلتيها لتسقط بثقل على أهدابها الطويلة الكثيفة التي طالما حسدها عليها الجميع، فلم تحتمل بعض رموشها هذا الثقل فسقطت، لتجرفها الدموع أمامها على خديها الجمريين. رج قلبه القلق ترى ما بها، هل يستنطقها بالأسئلة؟، أم يتركها تهدأ أولًا؟
أنفك عقال لسانها دونما سؤال، وبدأ يجيب ما قد يبدو للغير أنه هزيان شخص محموم، لكنه فهم ما بها: أنا ككوب زجاجي كسر بدون رحمة، رممه صاحبه في مهارة، ولكن بقايا اللصق ظلت ظاهرة، فحاول أن يخفيها بالزخارف، ليراه الجميع كوبًا جديدًا ذو مظهر بديع، وقبل أن يجف ويتماسك صب بداخله ماء ساخن فتناثرت شظايا البلور في كل مكان وهي تصرخ متألمة
غلبها البكاء، فأمسكت عن الكلام للحظة، كانت كافية له ليجمع بها شجاعته عبر ضخ الأدرينالين في جسده ليسألها بلهفة: هل تسمحي لي بأن أجمع شظايا البلور وأعيد ترميمها؟
رفعت عينيها لتقرأ الحب والصدق بمحياه. خمس ثواني كانت كالدهر مرت عليه قبل أن تهز رأسها إيجاباً، ليبدأ فصل جديد في حياتهما معا.