
محمد أبو زيد…
قصة قصيرة
تَظلُّ علاقتي بالقمرِ سؤالٌ يؤرقني، لم تكمُن غرابة السؤال فى حيِّزٍ بين مستأنس أو مجرد متأمل يهوى الحديث إليه، لكن الحيرة فى إجابته لي، أجلٌ يشاطرنى الحديث دومًا وكأنه وجهٌ عابسٌ، ونادرًا مبتسم! وعندما بلغت العشرين اعتقدت أن تلك التعبيرات هى انعكاس لمخاوفي وآمالى، لكن الأمر حقًا على النقيض تماماً.
لُجوئي لليالِ القمر، نابعٌ من دافع دفين بداخلي، صنعته الحياة رُغمًا عني فكان السبيل الهروب من وحدتى إليه، رُغم أننا ستة إخوة غير أبي وأمى. أسرتى منحدرة من قلب الصعيد، استقل أبى بهم طريق جبلي عتيق حتى وصل إلى أحضان القاهرة حيث استقر وولدتُ، فأنا ابن القاهرة المدينة الصاخبة، والليل الساحر ونيلها الفياض، وابن ذاك القمر.
انتمائي للقاهرة لم يكن محل ميلاد جسدى، بل وميلاد وجدانى، وهنا المفارقة بينى وبين أسرتى، فكانت علاقتنا طرديةً تمامًا، فكرًا وعاطفةً حتى فى إداركنا لشتّى أمور الحياة وتعاملنا معها، كلما تقدمت بالعمر تزيد الفجوة، فأنا أؤمن بالحب، أؤمن بالحرية، أما عنهم كانت التقاليد والعادات أهم ما تحكمهم مهما كلفتهم حتى لو كان الامر حلى حساب قلوبهم، لم أتهمهم يومًا أن قلوبهم مثل تلك الجبال التى مَدّت سهولها بوجدانهم بل كان الجمود يستولى على عقولهم ومدى تمسكهم بما ألفينا عليه آباءنا.
فى بداية مستقرنا لم تهوى أمى الاختلاط بأهل حيِّنا، تخشى على أخوتى مما سمعتْ عن أهل المدينة من ذاك الانفتاح وتوابعه، منشغلة دائمًا بالبيت وزيارة الأقارب فهو واجب مقدس، أبى كان عاملًا بسيط يكتفي بذهابه للعمل وبعد العودة يتناول الغداء ثم ينزل الى المقهى حتى لا يتأخر على ميعاد ” الشيشة” الصمت سمته ومتلازمته، أما عن أخواتى الخمسة ثلاثة متزوجون أخذتهم الحياة الزوجية لكنهم لا يختلفون عن أبى كثيرًا ، أما عن الأختين فهما كانتا أيضًا تابعتان لأمي، الكل يشبه الآخر مثل لون رمال الصحراء، وهم أيضًا يؤمنون بالحب، ولكن بقانون مختلف.
“أما عنّي كنت الصاخب المتمرد، شعرت بينهم بوحدة، افتقدت الحضن الدافئ، افتقدت البوح له عن حب أو مشاعر، جرّبت ذاك مرارًا فلم أجد سوى ملامة أو نفور، ذات مرة كانت أختى تحكى لأخى عن أمر سبق وتحدثت إليها فيه معلقًا أخى …
– سيبك منه ده دماغه مريحاه، مش عاوز يعيش عيشة أهله.
حزنتُ كثيرًا فى تلك الليلة ضاق صدري، شعور أن يستهزئ بمشاعرك أحد مؤلم ولو بغير قصد، خرجت إلى الشرفة أشكو همى الى قمري الحزين، فأدمنت لقاءه، دومًا كنت ألتمس فيه الحضن والمواساه، عندما دقّ قلبي هرولت إليه فرحًا أحكي له، لكنه للمرة الثانية حزين، عجبتُ لمَ كل ذاك الوجه العابس، فكرت كثيرًا حتّى ظننتُ أنه أيضًا ضدّي…
– حتى انت كمان، معاهم عليا!
واجهت تحديات كثيرة، لكن حكم العادة سبق، فقالت أمى ..
– دى غريبة متنفعناش ولا هتعيش عيشتنا.
وبعض صراع طويل فضلت الصمت فماذا أقول لها فالأمر خرج من يدي، مرّت سنين وأنا ألتزم الصمت، كلما حاولت أن أخرج عن المألوف أواجه نفس المشكلة، تربى داخلي شعور بالانكسار لم استطع ان أواجه اى شيء فى حياتى، خيّم الإحباط على قلبي، حتى الدراسة مللتها لدرجة أننى اتخذت الرسوب والفشل فيها السبيل الوحيد للعناد، فكما لم يحققوا لي ما أرغب لن احقق ذاك النجاح الذى يأملونه لي، ووسط كل هذا لم يحتوينى غير ظلام الليل وضياء قمرى البائس.
“رؤيتها الأمل الباقي فى حياتي أسأل نفسي هل يمكن أن تقبلنى على تلك الحالة، فترات الدراسة هى الوحيدة التى تتيح لي أن نجتمع سويًّا على منضدةٍ واحدة، أحببتُ تفاصيلها، تشعر بي دومًا، أجد الراحة فى حديثى معها، عينها كانت تحاكينى تقول: تكلّم. لكن كيف وأنا أتلقى أمامها كل الإهانات ، تَرى قِلة حيلتى وهوانى، وفى كل مرة أرجع الى قمري البائس.
مرّت الأيام حتى سمعت بموعد خطبتها، ضاعت مني، كما ضاع الكثير من حياتى، أتى موعد التجنيد، سيضيع عامين من عمرى “بجُملة ماضاع “.
مرَّ عامي الأول، خرجتُ لعالم آخر، انخرطت فى حياة جديدة.
رنّ هاتفي.. رقم أحدى صديقاتى:
– يا سمير… أمانى فى المستشفى.
– مالها يا بنتى.
– تعالى.. عايزة تشوفك.
وبالفعل أخذت إجازة وذهبت إليها، لم أتحمل رؤيتها فى تلك الحالة و دار الحوار بيني وبينها بعد أن علمت أن تركها “خطيبها” فور علمه بمرضها بالورم السرطانى.
– ليه يا سمير ماقلتش؟ ليه سِكت؟
– لأنى مستهلكيش!
– مين قال.. استنيتك كتير تتكلم.
– مكنتش متخيل إنك تستنى إنسان فاشل زيى.
– إنت مش عارف قيمة نفسك ولا قيمتك عندي.
– أنا انسان فاشل مجرد صانيعى وانتِ.
– انت تقدر تكمل تعليمك تقدر تكون.. أوعى تستسلم هتقدر بس المهم حاول افتح صفحة جديدة ..
خرجت وأنا مثقل بكل الحزن والألم لم أستطع الرجوع الى البيت فضّلت العودة إلى وحدتى. في اليوم التالى هاتفتنى صديقتنا:
– سمير .. البقاء لله أمانى تعيش انت!
“لعنتُ وقتها قدرى، لمَ يفعل بى ذلك؟! بعد أن أضاء لي الأمل، بعد كل تلك السنين؟ أخذتى وهلة، نمت متعب، هارب، جاءتنى قائلة:
– مش دى النهاية دى البداية
– مش فاهم؟!
– لازم تتعلم الدرس، سكت كتير، هتسكت لحد ما يضيع منك عمرك، ولا تضيع منك فرصة حب تانى
– أنا اللى زيي القدر كتب عليه الوحدة!
– انت معدن دهب بس محتاج تنفض التراب من عليك عشان تتشاف وتحب وتتحب.
– أعمل ايه
– افتح صفحة جديدة.
استيقظت من نومى فجأة وخرجت أفكر فيما قالت، وقررت أن أبدأ من جديد وخطوت مسرعًا أشارك قمري البأس قراري لكن فى هذه المرة.. ضحك القمر.