
حازم إسماعيل السيد
سراب في قفر الحياة
صدمة الفراق تقتلُ مرةً، لكنَّ طولَ البعدِ يقتلُ مرات.. يقتل مع كل كلمة تذكِّركَ بمن تحب.. في كل طريق كانت تجمعكما خطواتكما به.. مع كل من تراه يذكِّرك بها..
بعد أن ابتسم له الزمان وربط بين قلبيهما الحبُّ فنسي أيامًا ذاق فيها مرارة الوحدة والنسيان، إذ بالقدر يولِّيه ظهرَه من جديد فتُفَرِّق بينهما قسوة الحياة، وتحول بين لقائهما الظروف..
لم يجدها إلى جواره..
اشتاق إليها اشتياق الزرع للماء..
احتاج إليها احتياج العليل إلى الدواء..
زادت الأيام من وطأتها عليه، كان يجد فيها سلواه.. واليوم أصبح وحيدًا في مواجهة مشكلاته.. افتقد حنانها فذبلت مشاعره ونضب قلبُه..
كانت رغبته في ملاقاتها هي كل أمله في الحياة..
كانت لا تغيب عن خاطره لحظة..
يراها بإطلالتها المشرقة في صفحة السماء الصافية، وفي وجه القمر المنير..
يسمع صوتها في شجون المساء.. يصغي إلى همس الليل يبثُّها أشواقه إليها، ونجوم الليل تكتم أسراره فلا تفضح نجواه..
كم ناجاها في خياله فلبَّاه قلبه بندائها، ونطقت روحه بحبها..
لكن أين هي؟!
يراها في كل شيءٍ وفي لا شيءٍ..
اضطرته ظروفه إلى سفرٍ بعيد ليمضي أيامًا في الغربة.. لم تكن الغربة عليه بالأمر الجديد، فأصعب غربة أن تعيش غريبًا وسط أهلك؛ لأنَّ قلبَك شاردٌ في ملكوت من تحب.. هائمٌ في مسارب عالمها.. دائرٌ في فلكها.
وأثناء سيره في طريقه عائدًا يطالع الوجوه في وجومٍ ويأس، وإذ به ينظر على مسافة يميز منها وجوه الناس..
إذ به يراها!!
أجابت نفسُهُ سؤالاً طرحه عليها:
– ماذا لو رآها مصادفة؟!
– ألا يمكن أن يصادف الإنسان من يريد مقابلته من فوره حين يريد؟!
هل يمكن أن تُتَرجمَ الأفكار واقعًا يسير علـى قدمين؟!
ألا يكون القدر رحيمًا به فينقذ روحه التي كادت تزهق من ألم الفراق؟!
رآها.. نعم إنَّها هي.. تختال بوجهها الصبوح من خلف نظارتها الشمسية الكبيرة..
سرتْ في قلبه رعدةٌ يعرفُها.. كم هزَّتْ قلبَه وحركتْ أوتارَه..
ربَّما تبحث عنه كما يبحث عنها.. فالقلبان الموصولان معًا لابد يومًا أن يجتمعان..
تذكَّرَ حين رآها لأول مرة.. كالبدر المنير بابتسامتها المشرقة.. تتوارى من سحرها الشمس خجلاً..
كانت المسافة بينهما عرض الشارع، تمنَّى لو كانت له أجنحة تحمله ليتخطَّي حاجز السيارات التي تنهب الطريق نهبًا ..
ماذا سيفعل حين يلتقي وجهه بوجهها؟!
أيلومها على فترة الهجر؟!.. يُظهِرُ لها بعض الضجر ليجني ثمرة ذلك أن تصالحه.. سيُظهِرُ لها بعضَ مشاعر الغضب ليستجدي منها الحب محمول على عبارات الاعتذار تحيي قلبه بسحرها..
لكنَّه سيعاود أدراجه سريعًا فيمطرها بكلمات الحب بصوته الحنون الذي لا ينفتح قلبها إلا له..
انتظر حتى يخلو الطريق..
لحظات مرَّت عليه كالسنوات..
عبرَ الطريق إليها..
اقترب منها..
كانت جالسة على مقعد تنتظر الترام في موضعٍ للظل..
رفعت نظارتها عن عينيها.. اقترب أكثر وحملق في وجهها..
لم تكن من عادته أن يطالع وجوه النساء..
لكنها كانت المفاجأة!!
أشبـه حـالـه بمن يطلب الماء في وهج الشمس في الصحراء.. ثم يكتشف أنَّه سراب الصحراء!
لم تكن هي حبيبته!
لم تكن تشبهها من قريب أو بعيد.. فكيف وقع في تلك الخدعة؟!
ربما رآها بعيون قلبه، وإن كذبته عيني رأسه؟!
أيسخر منه القدر؟!
نظر من جديد إليها..
لم تكن تشبهها!
تساءل متعجبًا: كيف رآها أمامه؟!
كانت في عينيه سراب..
حيا الفتاة في خجل معتذرًا.. وغض الطرف.. طأطأ رأسه منكسرًا، ثم انصرف.. ابتلعه الزحام..
عاد إلى حبيبته في موضعها من قلبه..
يطوي على ذكراها أيامه ولياليه يستعين بذلك على فراقها..
*** *** *** *** *** ***
حازم إسماعيل السيد