رواية ماجدولين.. رائعة من الألم

ماجدولين، اسم من أصول يونانية يعني الأرض الطيبة أو المرأة ذات الأخلاق الحميدة، هي رواية من الأدب الرومانسي عرَّبها الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي، القامة الأدبية المعروفة، وجمع لنا فيها بين جمال الأدب الغربي وعذوبة اللغة العربية.
تقرأها فتشعر بأن الرائع حقًا في الرواية هو الترجمة. يُشعرك أنه الكاتب وأنك تأخذ الكلمات من قلمه مباشرةً، كأنه من عاشها بكل تفاصيلها، أحب وأحس، فارق وتألم، ثم كتب فصدق وصدّق، لطالما كان الإحساس هو القالب الأهم. باختصار، ماجدولين هي الرواية التي قال عنها نجيب محفوظ أنه قرأها عشرين مرة.
الرواية عن قصة حب وغرام بتفاصيلها الصغيرة وعواقب أمرها، بين شاعر بائس فقير وفتاة قروية ساذجة (إستيفن وماجدولين). القصة وإن شعرت فيها ببعض المبالغة في بعض الأحيان إلا إنها مبالغة جميلة برغم بؤسها وحزنها، وربما هذا هو سر جمالها!
إستيفن شاعر تملأه العزة بالنفس والاكتفاء بذاته وشِعره وأحلامه البسيطة في الحب والنجاح، فهذا ما يري أنه يستحقه من الحياة ويقاوم لأجله أهله ورغباتهم في سلك طريق غير التي يرسمها لنفسه وإن كانت أسهل وأسرع وربما تؤدي إلي غاية مشابهة لغايته، لكن الوسيلة لا تروقه أبدًا ولا تجد في نفسه رضا وهذا شيء يعلي قدره كثيرًا برغم فقره وبؤسه، فكان يقول: «إنني لا أعرف سعادة في الحياة غير سعادة النفس، ولا أفهم من المال إلا أنه وسيلة من وسائل تلك السعادة، فإن تمت بدونه فلا حاجة إليه، وإن جاءت بقليله فلا حاجة إليه»، وهذا المبدأ تبناه حتى موته!
أما ماجدولين فتاة قروية جميلة نقية، طاهرة القلب كما أرادت لنفسها، لا تعرف غير النباتات التي تتزين بها حديقة أبيها والبحيرة التي تتنزه عندها وصديقتها سوزان؛ وهذا هو عالمها كله بعد أبيها.
يلتقيان
جميلة قصة الحب بينهما، وعمق شعورهما وامتزاج حبهما بالطبيعة وكل ما يتعلق بها والماء والسماء والنباتات، صنع الذكريات، الآمال والأحلام والعهود وثقة كل منهما بالآخر، والبقاء علي الوصال مهما بعدت المسافات فالرابط بينهما أقوى من كل الماديات.
حتي ظننت أن هذا الحب لا يؤثر فيه الدهر أبدًا مهما أجهز عليه بنوائبه وأنيابه، وأن هذه القلوب محملة بالصدق والإخلاص بالقدر الذي جعلني واثقة من نهاية قصتهما وتتويج حبهما بزواج سعيد وحياة هنيئة!
لكنها الدنيا وفتنتها الغالبة على النفوس دائما!
فقد اندمجت ماجدولين بحياة غير حياتها القروية الطاهرة وعبثت بقلبها حتي علت غشاوتها على قلبها فرأت رغد الحياة بعينها لا بقلبها فاختارت المادة لا الروح، وتخيلت السعادة بالمال لا بالحب، ونُقض العهد الذي كان!
استوقفني تصنيف النفس بين المادية والروحية، ماهية كل منهما وكيفية امتزاجهما بالمعاني والأشياء حولهما، ومدى الانسجام بينهما.
والهفوة التي يهفوها الرجال والنساء جميعًا في مسألة الزواج أنهم يتساءلون عن كل شيء من جمال أو مال، أو خُلُق أو ذكاء أو علم أو أدب، ويغفلون النظر في روح هذه الأشياء جميعها، وهي الوحدة النفسية للزوجين، فالنفس نفسان: (مادية) تقف عند مظاهر الحياة ومراثيها، و(روحية) تتغلغل في أعماقها وأطوارها.
أصحاب النفس الأولى هم المتبلدون الذين يدورون في الحياة حول محور أنفسهم، وإذا أُعجبوا بشيء من المناظر أعجبوا من حيث قيمته ومنفعته لا من حيث بهائه ورونقه. أما أصحاب النفس الثانية هم أصحاب الملكات الشعرية الذين صفت أنفسهم، فأصبحت كالمرايا المجلوة فيظهر فيها العالم بما فيه من خير أو شر، يفرحون لخيره، ويحزنون لشره.
وكان مرشدًا هامًا في التوافق بين الزوجين بعيدًا عن المال والجمال والأخلاق وكل الأشياء الجديرة بالنجاح في العلاقة لكن هذا الشيء الدفين في النفس هو الأهم والأقدر على الحكم!
أما عن تداول الأيام وتقلبات الأحوال؛ فإستيفن الشاعر البائس المعدم الذي طُرد من عائلته وخرج من بلده خائب الرجا، تائه في العالم ضائقة به الأرض وكل القلوب التي عاش معها، يذهب إلى حيث لا يدري ويتخبط إلى ما شاء الله له، لا يبقيه على قيد الحياة سوي قلب ملأه الحب والصدق وميثاق عهد لا يتخلى عنه أبد الدهر وهو مصدر دفعه وقوته، يعود بعزة وإيمان مضاعف بنفسه وطريقه التي سلك ومال أكثر مما سعى لأجله وأحلام أهدتها الحياة له فاحتفظ بها جيدًا.
لكن كل هذا يصير في نظره هباءً منثورًا حين يعود والفرح يكاد يخلع قلبه من مكانه لأنه وأخيرًا سيرى ماجدولين ويتوج سعيه بالزواج منها ويختم رحلة عنائه وتشرده في البلاد في بيتهما المطل على النهر كما حلما!
فيصعقه تبدل الأحوال والقلوب أيضًا، والعهود لا شك! ويجد حلمه يحققه رجل غيره، يحققه صديقه مع حبيبته وحلم أيامه نيابةً عنه! وكأن الحياة ما فتحت له ذراعيها وأهدته كل ما تمنى إلا لتنزع منه أهم ما تمناه فهذا مبدأها دومًا. لا تمنح المرء كل ما يتمنى حتى وإن كان الذي تمنعه هو أجل ّما نتمنى وهو ما تمنينا لأجله في الأصل.
«حتي ليكاد يعتقد الناظر إليه في تلك الساعة أن هناك منزلة وسط بين الحياة و الموت، تنبعث فيها الحواس في سبلها ولكنها لا تعود إلى الدماغ بشيء مما تحس به».
وهذا ما فعلته الحياة أيضًا مع ماجدولين وزوجها بعد غدرهما بإستيفن الذي مارساه بإتقان شديد لا يمت للإنسانية بصلة، فبعدما تزوجا وبنيا سعادتهما على أطلال قلب إستيفن وهنأها برغد الحياة ومفاتنها معًا، أبى الدهر إلا أن يمنحهما بعض نوائبه ويحقق بعض العدل في الحياة، يسأم الزوج من زوجته ويبتعد تدريجيًا فما عاد يشعر برونقها ولا يراها بنفس العين التي دفعته للغدر بصديقه.
ومن ثم بدأ غبار الدنيا يزول عن قلب ماجدولين شيئًا فشيئًا وعادت ترى الأشياء كما هي، فما عادت سعادة المادة ترضي قلبها ولا تغنيها عن سعادة الروح التي تخلت عنها!
وهذا تمامًا ما كان يراه إستيفن بشأن هذا النوع من الزواج «ولا تلتئم النفس المادية بالنفس الروحية بحال من الأحوال، ولا تأنس بها، ولا تجد لذة العيش معها؛ وليس الذي يفرق بين الصاحبين أو الزوجين أو العشيرين تفاوت ما بينهما في الذكاء، أو العلم أو الخلق أو الجمال أو المال؛ فكثيرًا ما تصادق المختلفون في هذه الصفات، وتخادنوا وَصَفَتْ كأس المودة بينهم؛ وإنما الذي يفرق بينهما اختلاف شأن نفسيهما، وذهاب كل منهما في منازعه ومشاربه ورغباته وآماله وتصوراته وآرائه غير مذهب صاحبه، وأن يكون أحدهما ماديًا ضاحكًا للحياة سعيدًا بضحكه.. والآخر روحيًا باكيًا سعيدًا ببكائه!».
ولم يتجل العدل هنا فقط، بل ساء حال زوجها وفقد زمام حياته وشغله وأخذت أموره في الانهيار والإفلاس فخسرا المادة والروح.. الحب والحياة.
وإستيفن برغم الوجع والقهر الذي سكن قلبه منذ اللحظة التي رآهما فيها معًا غير عابئين به كأنه هواء يمر، وانتهاء الحياة بقلبه فأصبح حراك جسد يدفع نفسه نحو الحياة دفعًا إلا أنه الفائز الوحيد هنا فكان عونًا لهما وقدّم لهما يد العون والعطف برغم الغدر الذي لاقاه منهما وكان الحفاظ على جمال الروح وإبقاء القلب بفطرته التي خلقه الله بها هو مصدر قوة إستيفن وثباته حتي تلك اللحظة.
فلا زال قلبه عامرًا بالصدق والوفاء حتى تجاه الحبيبة والصديق ولا زال بإمكانه الاحتفاظ بالحسن دون السيء ولم ينس الأيام الحسان التي قضاها مع كل منهما وظل يذكر لماجدولين أنها المرأة الوحيدة التي بها أشرقت الشمس فأنارت ظلمة قلبه وأعطت معنى لحياته.
ولإدوار إنه صديقه ورفيق صباه وشريكه في سراء الحياة وضرائها، وكأن هذا التسامح الذي تخلل قلبه بعض منه ولم يضنه عليهم كان لأجله لا لأجلهم، لأجل قلبه وبقائه سليمًا قويًا نقيًا لا تشوبه شائبه ولا يعكره بشر كان ما كان!
ورغم كل هذا، لم يقو إدوار على الثبات والمقاومة. ولم يحاول حتى، وتخلى عن زوجته وطفله القادم وتخلى عن الحياة بأكملها، فروحه لم تكن بتلك القوة التي تنقذه من أهوال الحياة وتقلباتها كروح صديقه.
وعادت هي إلي قريتها، وقد نزعتها الدنيا كل ما أغرتها به من قبل ووهبتها إياه -حتي منزل أبيها ملاذها الأول والأخير- وأبدلته وحدة وانكسارًا وفقدانًا لكل شيء وكل معنى قد يساعد على البقاء.
فكان الموت في نظرها خير لها من الحياة، إذ لم تبق لها حياة.
وأدركت أن هذا ذنب المسكين الذي ذبحته بسكين باردة قديمًا ولم تندب الحظ ولا الحياة فهى تعي جيدًا ضرورة سريان الأحداث على هذا المنوال فهناك قلوب لا زالت تنزف فلتمنحها الحياة فرصة لتشعر بها وتستشعر مدى الأسى الذي سببته لها، فهمت قصد الحياة من كل هذا وتقبلت تذوق كل ماهو آتٍ مهما كانت مرارته.
وما بدأ الإحساس بالذنب يدب في قلبها أخيرًا حتى عادت إلى إستيفن تستعطفه ليمنحها الفرصة فتكون له المرأة التي تمناها دومًا وتعطيه الحياة التي حلم بها معها.. ويعيشا معًا سعادة الحب التي آمنوا بها في الماضي. لكنه رفض فبعض الإساءات لا تُنسى وبعض التأخر يقتل واستحال أن يحيا قلبه على يد من قتله يومًا!
حتى وإن كانت الروح تحترق من الألم على فراقهم، وقد ظل إستيفن يحترق بحبه لماجدولين التي لم يقو على العفو عنها ولم يستطع إخراجها من قلبه وعقله فى شعور واحد. ولم يُرضّ قلبه شيء في الحياة بعدها برغم نجاحه الشديد، فقد علا اسمه بين الملأ وترنمت بموسيقاه الآذان.
حتى مات وهو يرعى ماجدولين الصغيرة -الشيء المتبقي من حبيبته- ويمنحها الحب والحنان والاحتواء الذي حال الزمان دون أن يمنحه لأمها برغم هيامه الشديد بها. ومات بعد عمر يُقَدر بحجم كل الخذلان والمعاناة والفشل والخيبات والذل والألم والفراق والغدر الذي قد يُصاب بها المرء في الحياة!
المصدر : ساسة بوست