
Ω 3 Ω
بعد تسعة عشر شهرا…
إنتصاف الليل في البلدة لا يثني ملاهيها عن مواصلة المرح.. و كما يقول أحد أصحاب هذه الملاهي عندما قال له أحد أصحابه ” أظنك لم تذق طعم النوم ليلا أبدا ” فقال الرجل ” نحن تجار اللهو و المرح …و تلك التجارة رائجة ليلا , كاسدة نهارا ..” .. كذلك تجارة الإيمان تزدهر ليلا , و هذا ما اعتاد أن يفعله الشيخ “محمود ” في قلب الليل , حيث اعتاد أن يقوم الليل في منزله البسيط الذي يقيم فيه مع زوجته المسنة و خادمه ..لم يرزق الشيخ “محمود ” بأبناء..ففضل أن يحيى حياة هادئة مع زوجته بعيدا عن مشاحنات الحياة.. عمل قليلا بالتجارة و قد ساعده في ذلك صديقه المقرب – أو الذي كان – “فريد خان ” , و بعدما حدث لــ”فريد” اعتزل التجارة تماما , فهو لن يحتمل أن يحدث له يوما ما حدث لصديقه المقرب و ولده..
أجفل الجميع جراء طرق شديد على باب الدار , فتقدم الخادم بحذر :
-من الطارق ؟ ..
لم يتلق سوى طرقات ثلاثية على الباب , فنظر إلى الشيخ نظرة حيرة و بعد لحظات من التردد أومأ له الشيخ ليفتح الباب , و ما أن أدار المزلاج حتى إندفع شخص ملثم داخل الدار و هو يغلق الباب خلفه فسأله الخادم في هلع :
-من أنت ؟ و ماذا تريد ؟
و بدل من أن يجيب الغريب , أخذ ينظر إلى الشيخ و تقدم منه في بطء وهو يميط اللثام عن وجهه .. تأمل الشيخ هذا الوجه الشاحب ذا اللحية السوداء الطويلة .. و خصلات من الشعر الكثيف تنسدل لتختفي خلفها عينان مليئتان بالألم .. سأل الشيخ في قلق و ريبة :
-من أنت أيها الشاب ؟
أزاح الغريب خصلات شعره و كأنما يساعد الشيخ الذي مالبثت عيناه أن اتسعت من شدة المفاجأة ..
****************
أخذ الشيخ ” محمود ” يتأمل الشاب الذي يتناول طعامه في لهفة و كأنه لم يذق طعاما منذ أمد بعيد ,و لم يزل الشيخ غير مصدق أن هذا الشاب الملتحي النحيل الشاحب هو “عمر خان ” الذي كان فيما مضى مفعما بالحيوية و الجمال .. كان الشيخ سعيدا بعودة “عمر” من جديد , إلا أن أمرا ما أصابه بالحيرة :
-ولكنك لم تخبرني يا ولدي ..كيف أطلقوا سراحك بعد كل هذه المدة ؟
توقف “عمر” فجأة عن تناول الطعام دون أن يرفع بصره عنه ..و مرت لحظات قبل أن يرفع عينيه ناظرا للشيخ الذي مالبث أن عقد حاجبيه في قلق :
-لم يطلقوا سراحك ..أليس كذلك؟
فلم يجبه “عمر ” بشيء .. فاتسعت عينا الشيخ في قلق :
-أهربت ؟
نفض “عمر” يديه من الطعام قبل أن يقول و في صوته نبرة حزن و ألم :
-لم يكن ليتركني أي منهم على قيد الحياة قبل أن ألقاكم .. لقد زجوا بي في السجن و نسوا أمري.. تركوني للموت المحتم .. لم تبقني على قيد الحياة إلا كسرات من الخبز الجاف يلقونها إلي كل يوم في قبري..ليس لديك أدنى فكرة عما اضطررت لتحمله من مهانة و مذلة طوال تسعة عشر شهرا في الجحيم .. ليس لديك أدنى فكرة ..
أتت زوجة الشيخ حاملة طبق من الفاكهة و قد سمعت ما دار بينهما من حديث :
-لن يتركوك يا ولدي..سيقلبون البلدة رأسا على عقب بحثا عنك ما أن يكتشفوا هروبك..
قال الشيخ مؤكدا على كلام زوجته :
-لقد أصبحت مقاليد السلطة بالبلدة بيد ” فاريان” بعدما استولى على أموال أبيك و تجارته بمساعدة قائد الشرطة الفاسد .. وقد أغدق بالهدايا و العطايا على حاشية السلطان , مما ضمن له البقاء في سلطته , و أمن له الحماية و اليد الباطشة …
نهض عمر من مجلسه و سار بضع خطوات في شرود قبل أن يقول في حزم :
-لابد أن يموت “فاريان” ….لابد أن أقتله .
انتفض الشيخ و قال في ذعر :
-ماذا تقول ؟! هل جننت ؟
وقالت الزوجة في جزع :
-لن تستطيع يا ولدي..و ان استطعت ..فلن تنجو ..
قال “عمر” في إصرار و حزم :
-لابد أن أقضي عليه كما قضى على أبي ..لقد أخذ مني كل شيء…كل شيء..و لن أتوانى في القضاء عليه…حتى لو دفعت حياتي ثمنا لهذا ..
اختنقت الدموع في عينيه فاقترب الشيخ منه و ربت على كتفيه و هو يقول في رفق :
-يا بني..لقد نسيت أمرا مهما ..
فقال “عمر” في تساؤل:
-ماهو ؟
فتنهد الشيخ و قال:
-ستبقى _إن بقيت على قيد الحياة _ موصوما بالعار , و عائلتك مسلوبة الشرف …و سيموت “فاريان” ميتة الشهداء عند السلطان …وعندئذ لن تبقى كثيرا حتى تجد كل جنود السلطان يبحثون عنك ليصلبوك على باب قصره …مثلك مثل أحط الخونة …و تذهب ريحكم أنت و أهلك ..و لن تبقى بين الناس غير ذكريات بائسة عنكم ..
قطب “عمر ” جبينه و هوه غير مصدق لما يسمعه من كلمات تركت في قلبه أثرا بليغا و تركته في حيرة من أمره :
-ماذا أفعل الآن؟ ما الذي يتوجب علي فعله ؟! هل إستسلامي للسجن سيفيد ..أم إختفائي للأبد سيرد كرامة والدي إليه ؟ ماذا أفعل ؟
تنهد الشيخ و أخذ يعبث بلحيته البيضاء وهو يفكر ..لم يجد سوى حل واحد :
-إسمع يا “عمر ” ..ليس من الحكمة أن تواجه من هم أكثر قوة منك و بطشا , ولا من الشجاعة أن تواجه ذوي الجاه و السلطان بشخصك الضعيف .. فليس أمامك سوى أن حل واحد ..إرحل من البلدة إلى أقصى ما يكون..إبتعد عن أي أرض تتبع السلطان و حاشيته..حارب حتى تكون ذا سلطة وسمعة طيبة تصل إلى أذن السلطان يوما ما ..فقد يشفع ذلك لك عنده ويعطيك فرصة لتطهير اسم والدك و عائلتك مما لحق به من دنس الظلم … عندها فقط تستطيع أن تواجه “فاريان ” و جبروته .. فكل حق يحتاج لقوة تحقه و تقذف به على الباطل فتدمغه .. تحتاج لذكاءك و شجاعتك ليمنحانك قوة تواجه بها الظلم و الظلمات ..
عندها تذكر “عمر ” كلمات أبيه قبيل وفاته ” واجه القدر بشجاعة .. واجه الخطر بحنكة …واجه الظلم بقوة ..” :
-نعم.. كلامك صحيح يا عماه ..كلامك صحيح ..
ابتسم الشيخ و هو يربت على كتف “عمر” قبل أن يقول :
-و الآن عليك أن تزيل لحيتك و تقصر شعرك .. مع بزوغ فجر غد سترحل سفينة تجارية من شاطيء البلدة ..ستكون وسيلة هروبك من رامستان ..
عقد “عمر خان ” حاجبيه و قد تزاحمت الأفكار في عقله.. فقدره المجهول من يتحكم به الآن فهو لا يدري ..هل سينجح في امتلاك القوة و السلطة اللازمة للقضاء على “فاريان ” و جبروته .. أم سيهلك قبل أن يسترد كرامة عائلته المسلوبة ..كل هذا مخبأ في طيات الغيب ..و هذا ما يؤلمه.
Ω 4 Ω
” قطرة واحدة تكفي ”
قالها ” حسان ” وقد أمسك بسحاحة تحوي سائلا قرمزي اللون بحذر شديد و أخذ يقرب فوهتها من فوهة دورق زجاجي على منضدة تجاربه الخشبية به سائل شفاف تتصاعد منه أبخرة .. حاول أن يكون أكثر اتزانا و ثباتا بأن وضع يده الأخرى على المنضدة , و لكن دون قصد منه اصطدمت يده بدورق آخر ليسقط عن المنضدة , فأجفل ” حسان ” ..” تبا..!! ” .. أفلتت منه ثلاث قطرات في آن واحد إلى قلب دورق التجربة ..تفاعل الخليط بشدة أخذ الدورق يهتز معها و تزايدت الأبخرة بشكل مخيف …. فزع ” حسان ” قبل أن ينبطح أرضا بشكل غريزي .. ودوي الإنفجار ..
اهتز نزل ” جرير ” بالكامل و فزع نزلاؤه من التجار القادمين من بلاد آخرى في رحلات تجارية , و كان “جرير” صاحب النزل – وهو رجل بدين و قصير – يحاول أن يجاري نزل ” البيت الأحمر” الشهير في أن يجعل نزله أكثر راحة و مزودا بكل وسائل الإستمتاع من الطعام والشراب و الرقص و الغناء .. و رغم أن “البيت الأحمر ” قد حوى أفخر الملذات و أجودها , وأجمل الجواري و أغلاهم ثمنا , حتى أن “فاريان” يقضي معظم وقته به للإستمتاع أو لعقد صفقاته , إلا أن “جرير” قد نجح في إكتساب بعض العملاء من التجار الأكثر حرصا على إنفاق أموالهم , بتقديم المتعة المطلوبة بمقابل مادي أقل من المطلوب بنزل فخم كنزل “البيت الأحمر ” .. وها هي الآن جهوده توشك أن تضيع هباءا..
” أيها المجنون اللعين !!..سأقضي عليك قبل أن تقضي علي ”
قالها ” جرير ” وهو يقتحم غرفة ” حسان ” بغضب عارم قبل أن يجد نفسه في قلب ضباب كثيف يملأ الغرفة ..فأخذ يسعل بشدة قبل أن ينقشع الضباب تدريجيا و يظهر طرف ثوب “حسان ” المختبيء أسفل المنضدة , فلا يجد ” جرير ” غير أن ينقض على ” حسان ” قابضا على عنقه :
-تريد أن تدمر نزلي .. تريد أن تقضي علي و على مصدر رزقي ..لأقتلنك قبل أن تفعل أيها اللعين ..لأقتلنك ..
بصعوبة استطاع “حسان ” أن يتخلص من أيدي الرجل وهو يقول في حنق :
-إليك عني أيها الأحمق ..إنك لا تدرك قيمة ما أفعله هنا و كل ما يهمك هو ملهاك القذر هذا ؟
-و ماقيمة ماتفعله أيها المفلس ؟.. أنت جاثم على قلبي منذ فترة طويلة دون أن أرى منك درهما أو دينارا و لا أجد منك غير ماتخدعني به من حديثك عن الكنز الذي ستجنيه بعدما تتم ما تفعله أيها الدجال ..
– لست دجالا أيها الأحمق .. أنا كيميائي ..عالم كيميائي .. و المركبات التي سأصنعها ستجعل مني ثريا يوما ما ..
ضحك “جرير ” في سخرية :
-إنك لمجنون مختل .. ولن أسمح لك بأن تخدعني بكلامك .. فإما أن تدفع ما تدين به لي ..أو ترحل بعيدا عني و عن نزلي..
أخذ ” حسان ” يفحص الفوضى على منضدة تجاربه و هو يدعي اللامبالاة :
-أيها الجشع .. تتحدث عن الأموال بعقلك الضحل دون أن تدرك أن يوما ما سيتاهفت الجميع على نزلك الوضيع هذا فقط ليروا الغرفة التي إتخذها ” حسان ” الكيميائي معملا له ليبتكر فيه أهم المركبات التي أفادت البشرية جمعاء .. يجب أن تكون بعيد النظر ..
فصاح الرجل بغضب :
-لا أريد أن أكون بعيد النظر إلا لأراك ترحل عني بعيدا بعيدا …و فورا .. فلتجمع قذارتك و ترحل عن هنا ..أيها الكيميائي ..
و غادر الغرفة و ” حسان ” يصيح من خلفه :
-لن أرحل … ليس بهذه السهولة تتم الأمور مع “حسان ” الكيميائي ..
و ما أن غادر “جرير ” الغرفة حتى وجد “حسان ” إثنين من رجاله يسدان باب الغرفة بقامتهم الطويلة المفتولة العضلات , ونظرات الغضب تطل من أعينهم , فأبتسم ” حسان ” و هو يسرع بجمع أشياءه الضرورية في حقيبة خشبية متوسطة الحجم :
-سأنتهي حالا يا رجال .. لا تقلقوا ..
أشاح بوجهه عنهم و قد ظهرت عليه علامات الحنق و الغضب المكتوم .. لقد تبددت آخر فرصة لديه لتوها ..
***************
وُلد ” حسان النعماني ” لرجل حطاب فقير و إمرأة توفيت أثناء ولادته المتعسرة .. كان الولد الذي أتى على الكبر , و الذي جعله مرض أبيه و عجزه عن العمل يلتحق بخدمة الطبيب الذي كان يعالج أبيه .. كان الطبيب الطيب يرأف بحال الرجل و يحاول أن يمد يد المساعدة دون جرح لكرامته , فعرض عليه أن يتخذ من ولده الذي لم يبلغ عامه الحادي عشر مساعدا له .. يحمل عنه حقيبته أو يعني بالمكان في غيابه .. في مقابل أجر مناسب علاوة على تعليمه القراءة و الكتابة ..
كان عقل “حسان ” يتقد ذكاءا و قد أبدى نهمه لمعرفة أسرار المواد الكيميائية و العشبية التي بهرته , فقام الطبيب بتعليمه مبادئ الكيمياء و كيفية صنع الأدوية العشبية , لعله يرث الطب عنه , وخاصة بعد وفاة والد ” حسان ” , فأخذ ينكب على دراسة المواد الكيميائية التي جذبته بعيدا عن ممارسة الطب , و بعد وفاة الطبيب ظل ” حسان ” يتنقل بلا مأوى محاولا أن يبتكر مركبا كيميائيا ما , رفض حتى أن يفصح عن ماهيته بينه و بين نفسه , و كل ما يذكره عنه أنه سيذهل العالم , و سيعلو شأنه به في البلاد .. إلا أن الفقير نادرا ما يفارقه سوء الحظ ..
********************** يتبع