
Ω 5 Ω
” ماذا تقول ؟!…كيف حدث هذا ؟ و أين كنتم جميعا ؟ ”
صاح بها ” فاريان ” في وجه قائد الشرطة بعد أن أيقظه من نومه ليخبره بهروب ” عمر خان ” من السجن المشدد .. لم يصدق ” فاريان ” ما حدث و كأنه تلقى صدمة هائلة ألقت به على أقرب مقعد وهو ينظر إلى قائد الشرطة بغضب عارم :
-كيف يهرب منكم ؟ كيف ؟
حاول قائد الشرطة تهدئته و هو يقول :
-سأقوم بالتحقيق في الأمر .. و لكني أطلقت كل فرد لدي في أعقابه بحثا عنه بينما نتحدث الآن .. سيقلبون البلدة رأسا على عقب و سيأتون به .. لا تقلق ..
فصاح “فاريان ” في غضب :
-لا تخبرني ألا أقلق ..أنت لا تعرف شيئا أيها الأحمق .. يجب عليكم أن تحضروه حيا .. لا تؤذوه..
تعجب الرجل من موقف ” فاريان ” المتناقض :
-لقد أصبتني بعظيم العجب و الدهشة .. و غمرتني بالحيرة من موقفك تجاه ذلك الشاب ..كان بإمكاننا أن نقتله في السجن ..أو نلصق به تهمة كما فعلنا بأبيه ومن ثم نحاكمه و نعدمه ..إلا أنك رفضت ذلك دون إبداء أي سبب ..فظننت أنك تريد أن تتشفى في الابن إنتقاما من أبيه ..و الآن لا تريد أن يلحق به أذى .. تجعلني أظن في بعض الأحيان أنك تخاف على الشاب أو أن بقلبك بعض الحب تجاهه …
لم يجبه “فاريان ” , ولكنه شرد بذهنه في الماضي البعيد .. إلى لقاء خطير..
******************
كان “فاريان ” عائدا من سهرته مع بعض التجار يفكر في حل لمعضلة “فريد خان ” حين استوقفته امرأة عجوز تجلس على جانب الطريق :
-هلا ساعدتني يا ولدي ؟
ألقى “فاريان” نظرة لا مبالاة دون أن يتوقف و هو يقول :
-إليك عني يا امرأة ..فأنا من يحتاج المساعدة .
و تابع طريقه لولا أن صاحت به العجوز :
-لقد استغلظ أمر “فريد خان ” عليك للغاية ..
فتوقف فجأة و قد أصابته الدهشة من مقولة العجوز ..فاستدار عائدا إليها وهو ينظر إليها متسائلا فابتسمت العجوز بشيء من السخرية :
-أمر لا تستطيع إخفاءه أيها التاجر ..
-من أنت يا امرأة ؟ وماذا تريدين مني ؟
– لقد قلت بنفسك ..تحتاج لمن يساعدك ..و قد أتيت لمساعدتك ..
فقال “فاريان ” متشككا :
-وما أدراك بي و بحاجتي ؟ من أرسلك إلي ؟
-تسأل كثيرا ..و لو منحت لأذنيك الفرصة لأراحتك بكلماتي ..
فعقد حاجبيه وهو يقترب أكثر من العجوز و في حنق قال :
-إذن استعملي لسانك فيما يريحني سريعا.. قبل أن أستعمل يدي فيما يريحك للأبد ..
فابتسمت العجوز وقد التمعت عينيها بوميض غريب قبل أن تقول في صوت خفيض:
-سأخبرك أيها الأحمق بما ستفعله بعدوك ” فريد ” بما سيريحك منه للأبد ..و بما ستفعله بولده .. بما يضمن لك ثروة فوق ثروتك .. وسلطة فوق سلطتك ..تصل بها إلى السلطان نفسه ..
لمعت عينا “فرايان ” و لكنه مالبث أن شعر بالإرتباك قبل أن يقول :
-هل سأقتل الرجل و ولده لأستولي على أموالهما ؟ هذا أمر سخيف و مفضوح ..
فقالت العجوز و بكلمات مليئة بالثقة :
-بل خطة ماكرة ستودي بحياة الرجل .. و تبقي بالفتى سجينا لديك حتى حين ..و تضع كل مايملكان تحت يديك دون أن يمسك سوء أو يشك أحد بك ..بل و سيؤيدك القانون .. قائد الشرطة فاسد و أنت تعلم ..
فسأل “فاريان ” مستفسرا وهو يجثو على ركبتيه ليقترب أكثر من العجوز :
-ما الذي ستكسبينه من كل هذا الأمر أيتها العجوز ؟
فابتسمت في خبث و هي تقول :
-ثأر قديم .. و خدمة أقدمها لك بلا مقابل ..
فابتسم “فاريان ” في سخرية و هو يقول :
-ثأر قديم ؟!.. ياللعجب !! .. أخيرا وجدت شخصا يكره هذا الرجل غيري..و ما الذي فعله بك ؟
فقال العجوز في شيء من الحزم :
-ليس لك شأن بما فعل … هل تريد مساعدتي ام تغرب عن وجهي ؟
فقال ” فاريان ” في سرعة :
-لا لا ..بالطبع أريد مساعدتك ..و لكن لنفترض أني اشتريت قائد الشرطة ليساعدني ..ثم قضيت على “فريد خان ” و استوليت على مايملك ..لماذا سأبقي على حياة ولده سجينا و في إمكاني أن ألحقه بأبيه في سهولة و يسر ؟
فاقتربت العجوز بوجهها الدميم من وجه “فاريان ” وقد أوجس في نفسه خيفة من نظراتها الشيطانية و هي تهمس بصوت كفحيح الأفاعي :
-الفتى يجب أن يظل حيا ..هو مفتاح لسر عظيم لم يحن وقت كشفه..يجب أن يظل حيا حتى ذلك الوقت ..
فتساءل في دهشة عظيمة :
-وما هذا السر العظيم ؟
و انهالت على أذنيه أكثر الكلمات التي أثارت دهشته طوال حياته .. لقد بدا ما تخبره به العجوز أمرا رهيبا بالفعل ..
” نعم … يجب أن يظل حيا ”
استفاق “فرايان ” من شروده و في أذنيه كلمات العجوز تتردد كأنها بالأمس .. و شبح السر الأعظم يتراقص أمام عينيه .. و لن يقبل بغير أن يعثروا له على “عمر خان ” الآن .. أو أنه سيضطر إلى أن يلجأ إلى الحل الآخر .. الحل الذي لا يتمناه أحد أبدا ..
Ω 6 Ω
بدأت السفينة في الإبحار مبتعدة عن شواطيء ” رامستان ” , وكان البحارة يعملون بجد , في حين عمد بعض التجار لتفقد بضائعهم المحملة على السفينة ..وكان “عمر خان ” يقف على ظهر السفينة يطل ببصره على بلدته و هو يبتعد عنها , و في نفسه أصرار على أن يعود إليها مستردا كرامته هو و عائلته.
كان ” عمر ” قد أزال لحيته و صفف شعره و قد استرد بعض صحته بما تناوله من غذاء في دار الشيخ “محمود ” , الذي زوده بالمال و الزاد اللازمين للقيام برحلته البحرية .. كما أعطاه سيفا و سكينا للحماية.. تعاقبت مشاهد من حياته أمام عينيه .. تذكر كيف كانت حياته في كنف والده و والدته , و كيف انتهى أمر والده أمام عينيه , و كيف زُج به في ظلمات السجن دون ذنب اقترفه .. يحيى على القليل من الماء و فضلات طعام تلقى إليه كل يوم طوال تسعة عشر شهرا وحيدا في زنزانة حجرية ذات باب فولاذي.. كاد أن يفقد صوابه , حتى أنه حاول أن يحفر في الجدران الملساء بأظافره دون جدوى , إلى أن أتى اليوم الذي إستجاب الله لدعاءه فيه .. و عندها علم أن عناية الله و فعل الخيرات طريق نجاة الإنسان من الأهوال مهما كانت ..
إنفتح باب الزنزانة في ميعاد الطعام , وكان “عمر ” يجلس عند أحد أركان الزنزانة واضعا رأسه بين كفيه و لم يتكلف عناء النظر حتى للحارس الذي يضع له الطعام ..إلا أنه لاحظ أنت الحارس قد بقى في الزنزانة أكثر مما اعتاد أن يفعل , فرفع رأسه ليجد الحارس و هي يتلفت خارج الزنزانة ليتأكد من خلو الممر قبل أن يلتفت إليه متسائلا في صوت خافت :
-هل أنت “عمر خان ” ؟
فصمت “عمر ” و لم يجبه إلا بأن أعاد رأسه لموضعها الأول مرة أخرى دون إكتراث .. فقال الحارس :
-إن لم تكن أنت فهل تعرف في أي زنزانة قد أجده ؟
فرفع “عمر ” رأسه يتأمل الحارس المرتبك أمامه قبل أن يقول :
-ماذا تريد أيها الحارس ؟
تأكد الحارس مرة أخرى من خلو الممر قبل أن يقترب من “عمر ” .. وفي رفق كشف عن كتف الأخير في رفق ليرى وشما مميزا جعله يبتسم قبل أن يقول :
-إنه أنت “عمر ” إبن سيدي “فريد خان ” رحمه الله ..
فتعجب “عمر ” و جذبته الكلمات :
-من أنت يا هذا ؟ هل أعرفك ؟
فقال الحارس مبتسما :
-ليس تماما يا سيدي .. ولكني أحمل دينا عن أبي أقسمت أن أرده لأهله و منذ أن تم سجنك و أنا أعمل على هذا ..
فتساءل ” عمر ” في دهشة :
-أي دين هذا ؟ أنا لا أعرف عن ماذا تتحدث ..
فطمأنه الحارس و قال :
-ليس لدي وقت لأشرح لك .. ولكن يكفي أن تعرف أن والدك رحمه الله أنقذ والدي من الفقر و السجن يوما ما , و أنقذنا من التشرد بلا أي مقابل ..و قبل أن يتوفى والدي أوصاني أن أرد هذا المعروف إذا حان الوقت بلا تردد ..و قد تسنى لي الإلتحاق بالعمل هنا بحثا عنك لإنقاذك ..
دب الأمل في نفس “عمر ” وتهللت أسارير وجهه وهو يقول :
-إنقاذي ؟ و كيف ستقوم بهذا ؟
نهض الحارس بسرعة ليتأكد مرة أخرى من خلو الممر من أي أذن تسترق السمع قبل أن يعود ليقول هامسا :
-فلتستعد غدا في مثل هذا الوقت لتغادر هذا المكان للأبد .. لقد دبرت كل شيء ..
و قبل أن ينبث “عمر ” بكلمة سمعا أصوات أقدام في الممر فصاح الحارس :
-عليك اللعنة أيها الأحمق ..لتأكل ما يلقى إليك كأي كلب وإلا فلتذهب إلى الجحيم اللعين ..
ثم غمز إلى “عمر ” بعينه قبل أن يستدير ليجد أحد الحراس عند الباب يتساءل :
-ما بال هذا السجين ؟
فقال الحارس و هو يدفع الأخر برفق إلى الخارج ويغلق باب الزنزانة :
-لا عليك يا أخي ..إنه أحد الحمقى يريد أن يأكل لحما ..
فضحك الحارس الأخر وهو يقول :
-يظن نفسه بنزل “البيت الأحمر “… تبا له ..
و تعالت ضحكاتهم تاركين “عمر ” و هو يتناول الطعام بنهم و يحمد الله على تسخيره من ينقذه من محنته بما فعل والده من خير ..و ينتظر الغد بلهفة …ينتظر وقت الحرية ..
وحان الوقت .. دخل الحارس فجأة و أعطى “عمر” زي حراس السجن ليرتديه :
-ارتدي هذا الزي لنستطيع الخروج من هنا .. سنخرج بحجة إحضار مؤن .. ولن يدخل أحد الزنزانة قبل غدا مساءا ..ولكن بعد أن نفترق لا أريد أن أعرف عنك شيئا …يجب أن تختفي..
قال “عمر ” وهو يبدل ملابسه :
-ولكن أنت ..ألست تغامر بحياتك بهذا الأمر ؟
فأجابه الحارس مبتسما :
-لا تقلق يا صديقي ..فأنا لي خطتي الخاصة و قد أمنت حمياتي جيدا ..إهتم فقط بشؤونك ..
أنهى “عمر ” ارتداء ملابسه بسرعة و بدءا في تنفيذ خطتهما .. و قد نجحت …
استنشق “عمر” الهواء بعمق وهو على ظهر السفينة قبل أن يقول :
-أتمنى أن تكون بخير يا صديقي .. أتمنى أن تكون بخير ..
و تحسس الوشم على كتفه الأيمن و الذي من خلاله عرفه الحارس المنقذ .. وكان وشما على هيئة طائر العنقاء يواجه أفعى .. وكان بحجم كف اليد :
-يوما ما ستصبح معروفا للجميع..للجميع..
و عاد يطلق بصره في الأفق ..و خصلات شعره الأسود يداعبها نسيم البحر فتنسدل على عينيه الزرقاوتين اللامعتين.. تفيضان برغبة خطيرة ..ومدمرة.
******************يتبع،،