
حلب
تفاعل سريعا مع البعثة الألمانية وأعجب المسئول عنها بعمله، كان هذا الإعجاب كفيلا بمضاعفة أجره وبالتالي اختصار المدة المتبقية حتى يكمل الآلاف الأربعة بعد أن أنفق الكثير مما ادخره سابقا على طعامه وملبسه.
بعد أسبوعين من العمل المتواصل حصل على أول راتب له، خمسمائة دولار إضافة إلى ألف متبقية معه ستكفي لاستخراج جواز السفر، طلب يومين إجازة ونزل إلى أزمير، توجه مباشرة إلى مقهى وسأل عن المحامي جميل عمار، دله أحد العاملين على مكان جلوسه في أحد الأركان، توجه إليه وجلس أمامه، تفاجأ جميل ونظر إليه مستفسرا:
– أنا أديب تموز من حلب، قادم لك من طرف الدكتور أمين غوار.
– أهلا وسهلا بالحبيب، كيف حال الدكتور، لعله بخير.
– نعم، صمم على عدم الخروج لتأدية رسالته.
– أية خدمة يا صديقي لعيون الدكتور.
– أريد جواز سفر.
– وهل قالوا لك أنني أعمل في السفارة؟
– لا تقلق مني، والمال جاهز.
– اصمت، تعال معي.
أخذه مسرعا إلى بيت متوسط قديم قريب من المنطقة، دخلا معا وما أن أغلق جميل الباب حتى صاح فيه:
– كنت ستسبب في سجننا، المكان يعج بالأمن التركي ورجال النظام، أشرت لك مرتين لتصمت.
– أعتذر، لم أفهم الإشارة.
– عامة حصل خير، سيكلفك هذا الأمر ألفي دولار.
– نعم؟! قالوا لي ألف فقط.
– الموضوع بالغ الخطورة، والتصفية فورية، وستحصل على جواز أصلي ومسجل على الأجهزة.
– حسنا، لا يهم، من جملة الخسائر، هذه ألف، متى ينتهي؟
– شهر من الآن.
– شهر كامل؟
– لست وحدك، ستأخذ دورك.
– على كل حال أنا مضطر للقبول، سأحضر لك هنا بعد شهر.
– ليس هنا، لقد تم رصدنا في الغالب، ولا يجب أن نتصل خلال هذه الفترة، يوم العاشر من الشهر القادم ألتقيك في مطعم دينيز في منطقة الكوردون عند الثالثة عصرا، ستجدني قرب باب الدخول، تجلس بجواري بهدوء، تسلمني الألف الثانية وتستلم الجواز، هل تريد عليه تأشيرة دخول لليونان؟
– وكيف عرفت أني ذاهب إلى هناك؟
– ليس لكم ملجأ آخر.
– وهل ستكون سليمة؟
– لا.
– إذن لا أريدها، الجواز فقط.
– حسنا، عليك أن تذهب الآن، وسألتقيك في الموعد.
عاد أديب إلى الموقع يحمل أحلامه المتناثرة على عتبات الغربة.
كل درجة يتنقل فيها بين صعود أو هبوط كانت تهز كيانه وتجعله يركب آلة الزمن ويسافر إلى اللحظة التي كان فيها عامل حالم يؤدي واجبه ضمن مخطط قومي يستهدف رفع المستوى المعيشي لدولة صغيرة وإبهار العالم بحضارة متفردة.
وكلما وصل إلى الطبقة التي يبدو واضحا فيها الدمار وآثار الحريق الذي تحدثت عنه الأسطورة، تذكر بلده، تسقط دموع القهر على حجر محروق أو جدار متهدم لتمتزج بدموع من بقي على قيد الحياة بعد المذبحة التي قام بها اليونانيون، نفس رائحة الظلم والمبررات التي ترتدي عباءات وردية، ارتكن إلى كهف صغير وجده متواريا بين الأنقاض المهشمة، أغمض عينيه وغلبه البكاء.
وجده على حاله أحد العاملين في الموقع، ربت على كتفه وسأله عن حاله، أخبره أنه تذكر أهله ومدينته، طلب منه أن يحكي له عنها، أغمض عينيه من جديد يستحضر كل لحظة مرت عليه فيها، يتأمل في مدينته الجميلة:
– كانت حاضرة الشام وأكبرها من حيث عدد السكان، امتزاج التاريخ بالحاضر، أقدم مدينة عرفها البشر، أكثر من عشرة آلاف عام مرت عليها تهب الدنيا معاني الجمال والحضارة، أقدم تنظيم حضاري في تاريخ الإنسان، وادي الفرات وحاضرة تل المرابيط، أخذت اسمها في عصر مملكة بابل، وكانت مملكة مستقلة ذات حضور قوي ومؤثر في أحداث التاريخ، توالت عليها الممالك الكبرى من العموريين إلى الآشوريين إلى اليونانيون والحيثيون والميتانيون والآراميون والرومان، كل حضارة أضافت شيئا وأخذت شيئا، لكنها بلدنا العظيمة استوعبت كل هؤلاء، دخلها خالد بن الوليد عام 637 وغير تاريخها اللاحق، أصبحت العربية لغتها بعد السريانية، أعظم مراحل تاريخها عندما كانت عاصمة الدولة الحمدانية، خرج منها أعظم شاعر في تاريخ اللغة العربية، أبو الطيب المتنبي الذي طاف وجال ومدح كثيرا سيف الدولة، وكانت حلب منتهى مبتغاه وأعظم البلاد عنده وأكد على ذلك في بيته:
كلما رحبّت بنا الروضُ قلنا
حلبٌ قصْدُنا وأنتِ السبيلُ
ومدح الشاعر العظيم أبو فراس لها وهيامه بها حين يقول
سقى ثرى ” حلبٍ ” ما دمتَ ساكنها
يا بدرُ ، غيثانِ منهلُّ ومنبجسُ
أسِيرُ عَنهَا وَقَلبي في المُقَامِ بِهَا،
كأنّ مُهرِي لِثُقلِ السّيرِ مُحتَبَسُ
هَذا وَلَوْلا الّذي في قَلْبِ صَاحِبِهِ
مِنَ البَلابِلِ لمْ يَقْلَقْ بهِ فَرَسُ
كأنّما الأرْضُ والبُلدانُ مُوحشَة ٌ،
و ربعها دونهنَّ العامرُ الأنسُ
مثلُ الحصاة ِ التي يرمى بها أبداً
إلى السماءِ فترقى ثمَّ تنعكسُ
وأصبحت في عصر الدولة العثمانية ثاني أهم المدن العربية بعد القاهرة، حلب في كل شارع منها تشتم رائحة المجد والفخر والتاريخ، أهم مدينة اقتصادية في سوريا، الصناعة والزراعة والسياحة، كنا أغنياء كرماء شرفاء حتى جاءونا داخل حصان طروادة الجديد، فتح لهم البعض أبواب القلوب باسم الدين والحرية فخرجوا علينا بالموت والخراب والدمار، سجنونا داخل أحلامنا وقتلونا داخل بيوتنا، قتلوا كل أفراد عائلتي بطرق مختلفة، لا أعرف من مع من ومن ضد من، ضاع كل شيئ، ولا شيئ يصف ما نشعر به الآن أكثر من أبيات أبو فراس في سجن الظلم كما نحن الآن مشردون في عالم كالسجن:
ايضحك مأسور وتبكي طليقة،
ويسكت محزون ويندب سالي ؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة،
ولكن دمعي في الحوادث غالي ..
…….. يتبع