
البلم
حصل على الجواز أخيرا، بمجرد خروجه من المطعم لاحظ أن هناك من يتبعه، أسعفته خبرته في الهروب من طلقات الرصاص اليومية والبراميل المتفجرة المنتظمة وغارات الطائرات الليلية في الذوبان وسط الزحام والتملص من تابعيه الذين لاحظ أنهم زادوا بعد شارعين.
أسرع بالعودة إلى مقر عمله واستقر فيه حتى جمع المبلغ المطلوب وفوقه مبلغ آخر يؤمن المرحلة الإنتقالية، توجه في الموعد المحدد على رأس الشهر إلى مكان التجمع في الميناء الفرعي، لاحظ ازدياد عدد المهاجرين وتنوعهم، مركز توزيع إقليمي للأحلام الكبيرة والصغيرة معا.
كان الإتفاق على أن يركبوا سفينة صغيرة تؤمن لهم الثلاث إلى أربع ساعات المطلوبة ليعبروا بحر إيجة إلى شاطئ الممكن أو الصفر الجديد، فوجئوا بثلاثة مراكب مطاطية كبيرة الحجم، نادى المسئول الأول عن المجموعات للجميع أن يركبوا بأسرع وقت ممكن، اعترض البعض فكان نصيب أكثرهم اعتراضا طلقتين في رأسه وإلقائه في البحر.
تدافع الجميع في جنون ورعب إلى داخل البلم الذي كاد أن ينقلب من الضغط المفاجئ غير المنظم، كان الزحام خانقا لدرجة أن قائد كل بلم حذر من فيه من الحركة وإلا سينقلب لا محالة. لأول مرة يلاحظ أن لا أحد يرتدي سترة نجاة.
لاحظ المزيج الغريب بين الفرحة والقلق والخوف والأمل واليأس في عيون كل الموجودين، هاله رد رب أسرة بلهجة عربية معه زوجته وطفليه على سؤال أحدهم له إن كان خائفا من الغرق والموت:
– لا يهم، نحن موتى في كل الأحوال، المهم أن نموت معا.
– الموت يحيط بنا من كل جانب، وكأن الأرض تستعد للتخلص من عدد كبير ممن يعتلون ظهرها، لم تعد تطيق البشر، لم تعد تطيق الخوف والكذب والخداع والنفاق الذي يملأ الشرق الأوسط، لم تعد تتحمل خنوع الشعوب وقبولها بالذل والمهانة والخضوع بعد رسالات السماء التي نزلت جميعها فيهم.
لم تقطع تأملاته أمواج البحر المرعبة التي رغم عدم قوتها إلا أنها كانت تلهو بالمركب وبالأرواح التي تتعدى المائتين كأنها ريشة في مهب الريح.
– كان لابد ان يعاقبنا الله على تفريطنا وشهواتنا التي غرقنا فيها، نحن النموذج أصبحنا في أسفل التصنيف البشري خلقا وعلما وعملا، تابعون مساقون كالأغنام لا حول لنا ولا قوة، حتى الأغنام تعرف تماما الهدف من خلقها…
أفاق من غرقه في أفكاره على صوت استغاثات هائلة تقترب وتبتعد من البلم المرافق لهم على مسافة قريبة، تأمل طائر الموت وهو يحوم حول البلم الذي يبدو أنه لم يتحمل الأعداد الزائدة عليه وبدأ يتمايل بعنف، وكان لابد للنهاية المتوقعة للتنازلات اللانهائية.
انقلب المركب في لحظة رأسا على عقب واختفى الجميع للحظات، ثم بدأت تظهر بعض الرؤوس القليلة بجوار البلم التي يبدو أنها تعرف العوم.
سمع استغاثات وبكاء وعويل متقطع.
من يقول:
– خذوا ابني واتركوني.
ومن تقول أنها حامل، ومن يقول أنه لا يجب أن يموت.
أكثر ما أثار حنقه أن الشخص الوحيد الذي كان يرتدي سترة النجاة هو القائد التابع لعصابات التهريب، وأثاره أكثر اقتراب مركب صيد صغير بموتور والتقاطه ثم ضرب بالقدم كل من حاول من الناجين التعلق فيه..
مشهد جديد لابتلاع البحر للضعفاء والمساكين.
تعود البحر على التهام البشر من آن لآخر.
– هل يختلف مذاق الأشقياء والظالمين عن مذاق الأبرياء والضعفاء؟! هل يلتهم السمك الجميع؟ نعم مجتمع البحر أيضا فيه الطغاة وفيه الأبرياء، خلق البعض ليفترس، وخلقت الأغلبية لتكون طعاما للأقوياء.
بوسايدون الأسطوري إله بحر إيجه تعود على حماية سفن اليونان، فهل نحن أعداء أم أصدقاء؟! هل أقلقنا راحته واعتدينا على نفوذه؟ ابن الجبارين كرونوس وغايا، وشقيق زيوس وهيرا وديميتر إلهة الأرض والخصب كذلك هاديس سيد العالم السفلي، هل لا زالت الآلهة تغضب وتدخل في صراعات يذهب ضحيتها العبيد من البشر.
أفاق من هروبه على صمت قاتل، هدأ كل شيء…
صاح أحد الجالسين كاسرا الصمت المطبق:
– هل الله موجود؟! كيف يتركنا في هذا العذاب، حتى بحره يغضب علينا ويهددنا ويغرقنا بكل ظلم وجبروت، أين أنت يا الله، لو كنت موجودا أعطنا دليلا أو إشارة.
واجهه أحد الصامتين طوال الوقت:
– اصمت أيها الكافر الملحد قبل أن ألقيك في البحر لتصبح طعاما للقروش.
للحظة حمي وطيس التراشق وازداد الغاضبون عددا وارتفع صوت القانطين يسبون كل الملل فتمايل المركب بشدة، اضطروا إلى الجلوس جميعا خشية انقلاب.
– نفس الغباء والتخلف والجدال الذي لا ينتهي، سنغرق، ليتنا نغرق يا ألله، عدلك أن نموت لأننا لا نستحق الحياة.
…..يتبع