
” دماء الموتى ”
قصة قصيرة بقلم مجدي محروس
( بجسد نحيل ، وقدمين ثقيلتين ، أخذ يجرهما جرا في شوارع القاهرة ، في ذلك اليوم القائظ الشديد الحرارة ، من أيام أغسطس ، وعلي وجهه النحيل المليء بالتجاعيد ، التي حفرها الزمن ، كل بؤس الدنيا ومرارتها ..
أخذ يتنقل من شارع إلي شارع ؛ بحثا عن عمل ، وأصحاب المحلات لا يكلفون أنفسهم ، مشقة الرد عليه فقط يهزون رؤوسهم في لا مبالاة ، وهم يتطلعون لعينيه الزائغتين ، وملابسه الرثة التي تفوح منها رائحة العرق .
كصورة مجسدة لليأس ، أخذ يواصل طريقه ، وهو يشعر بسخونة الأرض تلهب قدميه ، وقد تسللت من كعب حذائه الممزق ، فبدا وكأنه يسير حافيا علي الأرض الملتهبة ، وقت الظهيرة ..
أمام عينيه الغائرتين الشاحبتين ، تتراقص صور شتي ..
صورة الحجرة التي يعيش فيها مع زوجته وأولاده ، وقد خلت من كل شيء يمكن بيعه ..
صورة زوجته التي تصرخ في وجهه باستمرار ، وهي تندب الحظ الذي أوقعها في هذا الزوج الذي لا يستطيع توفير الخبز لأسرته …
صورة أطفاله الصغار الذين يبكون جوعا ، وهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم ..
صورة صاحب البيت الذي يهدده بالطرد ، بعد أن عجز عن دفع الإيجار ..
علي شفتيه الجافتين ، يتراقص شبح ابتسامة مريرة ، وهو يتذكر عمره الذي قضاه يعمل في المطاعم والمقاهي – يوم أن كان يتمتع بصحته – لولا ذلك المرض اللعين ، الذي سلبه صحته ، وجعل أصحاب العمل يطردونه و …
استيقظ من شروده ، علي صرير عجلات عربة مسرعة ، تتفاداه بصعوبة ، وهو يعبر ذلك الطريق ..
واصل طريقه بأقدام متثاقلة ، غير عابئ بسباب صاحب العربة ..
عن بعد يلمح طابورا طويلا ، يقف في آخر الشارع ..
دبّ الأمل بداخله ، وانتعش وهو يقترب من ذلك الطابور ، ظنا منه أن أحد المحسنين يوزع الصدقات علي الفقراء ..
تعلقت عيناه بالطابور ، وفيهما ألف تساؤل وتساؤل ..
شقّ طريقه علي الأرض الملتهبة ، التي تلسع قدميه ، وراح يسأل الواقفين بالطابور في أمل وترقب :
– ماذا يوزعون ؟
تطلعت إليه الوجوه الشاحبة الممتقعة ، ولم يرد أحدهم ..
بصوت جاف متحشرج كرر سؤاله ، وجاءه الرد علي لسان عجوز ، كان ذا ملامح تشبهه فبدا وكأنه ينظر في المرآه :
– إنهم لا يوزعون شيئا ..
هذا بنك للدم ..
ونحن نبيع دماءنا .
تطلع إليه ذاهلا وهو يردد :
– ماذا ؟ ! …
تبيعون دماءكم ؟ !
تطلع إليه العجوز ، ثم نظر للناحية الأخرى ، وهو يمسح بكم قميصه عرقه الغزير ، الذي يسيل علي وجهه ، ولم يرد ..
مرة أخري تتراقص أمام وجهه صور متعددة ..
الزوجة التي تندب الحظ غير راضية ..
الأطفال الذين يبكون جوعا ..
صاحب البيت الذي يهدد ويتوعد ..
يهتف بداخله في مرارة :
– وماذا في ذلك ؟
وهل نملك شيئا غير دمائنا ؟
نعم ..
نعم .. نبيع دماءنا .
وقف مكانه في الطابور ، الذي بدا وكأنه لا يتحرك ، وهو يحلم باللحظة ، التي يصل فيها للمسئول ، ويعطيه دماءه ، ويأخذ قروشا قليلة يشتري بها خبزا لزوجته ، وأطفاله ..
.. بكل أمل راح يمد ذراعه أمام عيني المسئول ، وهو يرفع كم قميصه الممزق ؛ ليعري ذراعه ..
المسئول يتطلع لجسده النحيل ..
ووجهه الشاحب ..
وعروقه البارزة ..
ثم يهز رأسه في أسف ، ويبعده جانبا ؛ معلنا رفضه لدمائه ..
بصوت متحشرج ، يهتف في ضراعة ، وهو يمد ذراعه مرة أخري في وجه المسئول :
– أرجوك ..
المسئول يبعده في قسوة ، وهو يتناول ذراع رجل آخر يليه ..
تطلع إلي المسئول ، وهو يرمي ذراعه بجوار جسده ..
وتطلع إلي الوجوه الشاحبة ، التي تحاصره ..
وفي عينيه تكونت نظرة ..
نظرة فيها كل البؤس ..
والألم ..
والمرارة ..
ثم ..
ثم مضى في طريقه ! )
تمت بحمد الله
من مجموعتى القصصية
#على #هامش #الحياة