العقيدة و الدين

خِطَاباتُ الدُّعَاةِ .. خطاياهم!

بقلم : حسام الدين عوض

تعهَّدَ ربُّ العالمين بمغفرة ذنوب عصاة الموحدين المرتكبة في حقه تعالى ، فعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

ومنح اللهُ تعالى المؤمنين أبواباً واسعة لتكفير الذنوب والخطايا بحيث لايعدم مؤمن أن يصيب أحدها ولو بعد انقطاع عمله ، وإلا أصابته رحمةُ أرحم الراحمين ؛ يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه “رفع الملام عن الأئمة الأعلام” مايلي: (وَمَوَانِعُ لُحُوقِ الْوَعِيدِ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا: التَّوْبَةُ, وَمِنْهَا: الِاسْتِغْفَارُ, وَمِنْهَا: الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ لِلسَّيِّئَاتِ, وَمِنْهَا: بَلَاءُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا, وَمِنْهَا: شَفَاعَةُ شَفِيعٍ مُطَاعٍ، وَمِنْهَا: رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ. فَإِذَا عُدِمَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا, وَلَنْ تُعْدَمَ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَتَا وَتَمَرَّدَ وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ)

ثمّ على الجهة المقابلة ، شدد ربُّنا تبارك وتعالى النكير على الذنوب المرتكبة في حق العباد ولو كانوا غير مسلمين ، من مثل الظلم والفساد والغدر والغش وأكل أموال الناس بالباطل وتخسير الموازين ونحو ذلك ، ولهذا كان الاعتداءُ على المال العام من أشد الذنوب ومن أكبر الكبائر ، (كلا والذي نفس محمد بيده إن شملته الآن لتحترق عليه في النار).

أمَّا أكثرُ الدُّعاة والوُعَّاظ .. ففعلوا العكس! حتى تبلدت عقول المسلمين ، وتبدلت أخلاقهم!

 

فالدعاة الذين جعلوا “ذنوب الخلوات” قضيتهم الكبرى ، إنما رسموا على الجدران أشباحاً بريشة أخيلتهم ليخوفوا الناس منها ، فصرفوهم بالتخييل عن الحقيقة!

أما علموا أن الله تعالى يتوب على المذنب متى تاب واستغفر؟ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)(الشورى : 25) ، وأما إذا مات مصراً على معصيته ، فهو في مشيئة الله تعالى ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

والدعاة الذين ألقوا في روع الناس أن المعصية ولو كانت من صغائر الذنوب توجب التعذيب بالنار! فلماذا ذهلوا؟ عن قول الله تعالى : (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء : 147).

وبدلاً من حضِّ المسلم على مراقبة الله ، جعلوه أسيرَ حالة فزع مرضي من إله جبار يسعى للانتقام منه لأنه عصاه غفلة أو جهلا أو نسياناً ، لم يفهموا أنَّ العذاب لمن عذَّب غيره ، وأنَّ الانتقام لمن قهرَ سواه ، وأنَّ الوعيد لمن أذاق الضعفاءَ الذلّ والحرمانَ واستطال عليهم بسلطةٍ أو سطوةٍ ، فمن أفسد على الناس دنياهم ، أفسدوا -بعدل الله- عليه آخرته.

والدعاة الذين تضخَّمت مسألة “تغيير المنكر” في عقولهم حتى تجاوزت وزنها النسبي في الكتاب والسنة ، وقد اشتط بهم الفهم لدرجةٍ جعلوا معها “تغيير المنكر” جائزاً لآحاد الناس خارج سلطان الدولة!

فكأني بهم يفترضون في كل من يسارع إلى “تغيير المنكر” ، الضبط والانضباط ، والتقيد بالشرع ، ودقة الفهم لمقاصد الشريعة ، وسعة التفقه في أمور الدين ، وكأنه لم يكن في تاريخ الأمة خوارج ، قاتلوا علياً و قتلوا عثمان -رضي الله عنهما- وهم يزعمون أنهم أولى بالإسلام منهما ، ولا في واقعها صاحب هوى قد يتخذ من “تغيير المنكر” تكئة يستند عليها للاعتداء على غيره ، أو ستاراً يسوِّغُ به جريمته في حق سواه ، ولا متعصبٌ غالٍ في فهمه وتصوراته يرى نفسه الدين ، ولايستنكف الولوغ في مخاصمة كل الناس متى خالفوه في أمر من أموره.

والدعاة الذين تداولوا قصصاً بغير أسانيد عن صالحين لاتعرف عيونهم النوم بالليل ، ولابطونهم الشبع بالنهار ، وتعاف نفوسهم سائر الشهوات والملذات والملهيات !

وهؤلاء عندي بمنزلة صناع السينما الأميريكية ، الذين حين ملت ماكيناتها من استنساخ خلايا بشرية لاتغشى أصحابها لحظات الضعف البشري ولايعتريهم مايعتري الناس من التردد والتحير والتحيز للحياة والارتياب من الموت ، وحين كسد شباك تذاكر أبطالهم الاصطناعيين ، قرروا أن يصنعوا أبطالاً من الصفيح برقاقات إلكترونية ، ويوم قالوا: من أشد منا قوة! اختلقوا على شاشاتهم معارك مع سكان الفضاء الذين جاءوا لمنازلة جيوشهم بينما أنابهم باقي سكان الكوكب للاضطلاع بمهمة الدفاع عنه.

والدعاة الذين أسرفوا في الإلحاح على كلمة “الحرام” ، أفقدوا “الحرام” قيمته ومهابته في قلوب العوام ! فمادامت الموسيقي “حرام” ، والغناء “حرام” ، ومشاهدة التلفاز “حرام” ، والتصوير “حرام” ، وحلق اللحية “حرام” ، والضحك من غير سبب قلة أدب ! فقد أصبح الجواب العملي للناس: حرام بحرام ، احنا كده كده داخلين النار ..!

قنطوهم من رحمة الله ، وجعلوهم نهباً للحرام الذي لاتجبُّه التوبة ، كالبغي في الأرض ، وأكل أموال الناس بالباطل ، والظلم والقهر والفساد والإفساد والاستبداد

هؤلاء جميعاً قد أساءوا إلى الإسلام وإلى دعوته ، أدعو الله تعالى أن يغفر لنا ولهم ، وأن يهدينا وإياهم سواء السبيل.

اظهر المزيد

حسام الدين عوض

مهندس مصري وكاتب وباحث في الشؤون الإسلامية ، حاصل على بكالريوس الهندسة ، ماجستير إدارة الأعمال ، دبلوم الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى