خواطر مهنة الطب ومحنة العلم!

بقلم: حسام الدين عوض
حكي لي صديقي الطبيب أنّ السبب الذي حمله على ترك مهنة الطب رغم براعته فيها ، ليتفرغ للبيزنس كان نصيحة زوجة أستاذه العالم النابغة في مجال جراحة النساء والتوليد حيث أعيش في واحدة من دول أوروبا ، فذلك الأستاذ النابغة ورغم أنه من أعلام هذه الجراحة على مستوى العالم ، وله عمليات باسمه ، فضلاً عن مؤلفات طبية يتداولها أهل المهنة في دول أخرى ، فإنه لازال يستخدم وسائل المواصلات العامة لأنه لايملك سيارة!
كانت الزوجة المتطلعة توبِّخُهُ وتعاتبُه باستمرار ، وهي تطالبه بأن يفتتح عيادة مثل زملائه (الطموحين!!) ، بدلاً من الاكتفاء بالتدريس في الجامعة التي لاتدفع شيئاً ، وبدلاً من ممارسة المهنة في مستشفياتها التي تعالج الفقراء والمعوزين ، فكان يجيبها قائلاً: أنا أخدم البشرية ، ولا أنتظر أجراً على علمي من أحد (وسبحان من له في خلقه شئون .. فهذا البروفيسور ملحدٌ لايؤمن بدين!!)
لاأدري لماذا طافت تلك القصة بخلدي ، واجتاحت نفسي ، واحتلت وجداني وأنا أناقش مع بعض أصدقائي فكرة تنزيل الكتب الشرعية وغيرها من شبكة الإنترنت ..
قلت لهم: قناعتي أن المأكل والمشرب والملبس والمسكن والعلاج هي حقوق الحيوان ، أما الإنسان فيتميز فوق الحيوان بحقوق إضافية هي العلوم والفنون والآداب التي تروي ظمأ الروح ، والتي بغيرها لايكون الإنسانُ إنساناً! ولأنّ العالم كله أصبح محكوماً بالرأسمالية الجشعة ، وبقيمها ومفاهيمها المتوحشة ، فقد تحول كل هذا إلى تجارة مبتذلة هدفها إدرار الربح! (دعك من الحديث عن نصف سكان الكوكب ممن يعملون أجراء!! في منظومة إثراء يهود العالم الذين يمتلكون كبريات الشركات التجارية العابرة للقارات ، فليس هذا موضع كلامي هاهنا ، وصدق من قال: “ولتعلنّ علواً كبيراً”)
قلت : لقد تحوَّل الفن إلى تجارةٍ مبتذلة ، فأصبحنا نرى المجون والجنون فنون! وصارت المشاهد الخليعة المحشورة حشراً في السياق الدرامي لضرورة الإثارة الجنسية لازماً من لوازم الإنتاج الفني! وتحول العلم إلى تجارة مبتذلة ، فانتشرت الدروس الخصوصية في المدارس والجامعات ، وقام أساتذة الجامعات -في بلادنا- بطبع الكتب لبيعها للطلاب (معظمها بالمناسبة منقولٌ بحرفه من مراجع أجنبية) ففسدت العملية التعليمية بالكامل ، وتحولت الآداب والمعارف إلى تجارة مبتذلة ، فأصبح نشرُ العناوين الإثارية ، وممارسةُ الانتقائية التي تناقض الأمانة العلمية فيما يتم نشره أو استبعاده ، فضلاً عن تزوير بعض المقاطع بالحذف أو بالإضافة لإرضاء العوام ، -أصبح كل هذا- من لوازم أعمال دور النشر والطباعة.
تماماً .. كما تحول الطب إلى تجارة .. فأصبحنا نرى الطبيب الذي يكتب قائمة أدوية لاعلاقة لها بمرض المريض ، ليحصل على رشوة من الشركة المنتجة للدواء في شكل سفرية لحضور مؤتمر علمي في دولة أجنبية ، والطبيب الذي يضطر المريض لإجراء عملية جراحية لايحتاج إليها ، والطبيب الذي يحيل المريض على مراكز التحاليل والأشعات التي تستنزفه مالياً في مقابل الحصول على عمولات نظير توجيهه إليها.
قال أحدهم مستنكراً: ولكنك تدفع لمن يصلحُ سيارَتَك ثمن وقتِه الذي أنفَقَهُ في إصلاحها ، وخبرتَهُ التي تعلمها طَوال حياته! أليس هذا علماً أيضاً ؟ فلماذا تدفعُ ثمنَه؟ بيد أنَّكَ ترفضُ تثمين العلوم بالمال؟
قلت: الضابطُ في المسألة: أنَّ العلمَ هو كلُّ مايتم تدريسه في قاعات العلوم والبحوث ولو كانت صغيرة كـ كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم ، أو كانت كبيرة كـ أكسفورد وغيرها ، فما خرج عن هذه المؤسسات ، فهو بخلافه .. منتجاً .. سلعةً .. حرفةً .. تطبيقاً! الى آخره.
امتعض آخر قائلاً: فكيف تتصور أن يعيش الطبيب إذن؟ أو المؤلف؟ أو الكاتب؟ أو الشاعر؟ فضلاً عن العالم؟
قلت: كما ينبغي على الدولة أن تؤمن حياةً كريمةً للطبيب ، حرصاً على ألا تبتذل تلك المهنة الإنسانية بتحولها إلى تجارة رخيصة ، فإنه ينبغي عليها أن تُؤمِّنَ حياةً كريمةً للعلماء أيضاً ، وحرصاً على ألا يبتذل العلم!
قال أحدُهُم ساخراً: أتمزح؟ الدولُ لاتقومُ بأقلَّ من هذا تجاه مواطنيها ، بل هي لاتحقِّقُ شروطَ الصحة أصلاً! فهل تنتظرُ أو تتوقعُ منها أن تحققَ شُروطَ الكمال؟؟
قلت: فهذه إذن مهمة الأفراد ، دورُ مؤسسات المجتمع المدني ، شأنُ الاوقاف الأهلية ، مسئوليةُ من يعنيهم أن يتغير حالُ بلادِنَا وأن نخطُوَ خُطوَةً واحدةً إلى الأمام! واجبُنا أن نُخصص المؤسسات التي تنفق على العلماء والأطباء (وليس على الطلاب والمرضى) لأن العلم والطب ليسا سلعاً لتُشتَرَى بالمال كما أسلفت! وكما أتصور وأفهم! وقد استقر هذا المفهوم عندي منذ سنوات ، فكنتُ أقومُ بتنزيل الكتبِ الشرعيةِ وغيرِها من على الشبكة العنكبوتية وبكل أريحية وثقة ، فإن قال لي قائل: ولكنَّكَ بهذا تنتهكُ حقوقَ المؤلف بقراءتك ودعمك لمن سَرَقَ جهدَهُ ونشرَ مؤلفاتِه على الإنترنت ، وهو حرام!
فكنت أقول: بل المؤلف قد كتب كتابَهُ هذا لا ليحصُلَ على ثَمَن ، بل لينشرُ العلومَ والمعارفَ النافعة للناس ، وإن كان قد كتبه بُغيةَ قبض الثَّمن ، فقد شَرَى علمَهُ بثمنٍ بخسٍ دراهِمَ معدودةٍ وكان فيه من الزاهدين! ولسقطت بذلك أهليته عندي! واما في باب الحرام والحلال : أوليس يحرامٍ حرمانُ الفقيرِ من تعلم العلم؟ لينحصرَ تداولُ المعارفِ وتعلم العلوم على القادرين؟ وليكونَ دُولَةً بين الأغنياءِ مِنكُم!
أنا لستُ أهلاً للإفتاء في هذا الشأن ، فذلك شأنُ أهل الاختصاص ، وإنَّما طرحتُ خواطري حول الأمر لا أكثر! فمرحباً بأهل التخصص يفتوننا في أمرِنَا هذا إذا كانوا بهذا الموضوع مهمومين.