العقيدة و الدين

خواطر في السيرة النبوية (حادثة الفيل)

محمد سامي

#خواطر_في_السيرة_النبوية
#حادثة_الفيل

(هم جردوا لك جمعهم).
إلىٰ اليمن هذه المرة: عودوا معي إلىٰ (عام الفيل).
***
جلس علىٰ تختٍ عظيم يسأل النجوم: ها هو (الأشرم) في عزه؛ يقرع مِن الخمر کؤوسًا، ويوزعُ النظراتَ بين الجواري بالقسط حتىٰ لا تغضب إحداهن. قطعة مِن ديباجٍ أبيضٍ کستْ ذلك الجسد الضخم، بطن بها بروز وامتلاءٌ واضح، وجهٌ سأظلمه إذا نعتَّه بالعبوس، طالما استقبل الأمور بسوء ظن، نظراتٌ صارمةٌ خرجتْ مِن عيني جاحظتين أنهکهما السهر.
***
تمخضَ باب البهو عن حارسٍ شابٍ، تقدم حتىٰ ألقىٰ بظلهِ علىٰ مقربةٍ مِن ذنب سيده، انتشله مِن غياهب سکره؛ وأعاده إلىٰ واقع الملك الجائر علىٰ عرشٍ مغدور، عمَّل سمعهُ فلم يعمل، حرك ساعدهُ في تثاقل، کانتْ جوارحه في استراحة قصيرة، أزاح وطأة الأيدي الناعمة عن صدره فقل خمول جسده، أذن للحارس في الکلام، قال:

– “تسلل واحد مِن الأعراب يا سيدي، إلىٰ الکعبة المقدسة ليلًا، و…”

– “وماذا؟” قالها بعد أن قرع آخر کأس تبقىٰ لديه.
– “و لطخَ جدرانها بالقاذورات!!”.
***
استشاط غضبًا لم تَسعهُ الحجرة؛ راحتْ أبهاء قصرهِ الذهبية تتفتح، والستائر العاجية تتمايل مِن رياح حنقهِ، ساء طقس صنعاء؛ وتحول الجو الصحو إلىٰ أقسىٰ أيام الشتاء، ترك تخته مِن دبر الحجرة، لم تؤثر فيه براميل الخمر التي أفرغها لتوه، کان يحتاج إلىٰ مائة عبدٍ يعصرون خمرًا، حتىٰ يقدرون علىٰ مجاراته، يمکنك أن تسميه (حانة متنقلة)؛ أو إن شئتَ (رب الکؤوس)، انتشرتْ روائح نتنة کريهة کأن حوانيت الحدادين ونافخي الکير تحترق؛ عندما هبط مِن أعالي قصره، لقد تعلق الأمر بکرامتهِ، ومس تلابيب کبريائهِ، دخلَ کعبتهُ المقدسةَ يتفقدها، ازداد حنقهُ عندما وجد قِبلتها ملطخة بالقاذورات.
***
(القُلَّيس*) التي مِن أجل عيونها أفرغتْ خزائن کانتْ تنعم بالخيرات، کان عقله – الذي لا يستعمله کثيرًا – في ذلك الوقت؛ أضيعُ مِن الأيتام في مأدبةِ اللئام، غضَّ الطرف عن حلمه، ونزع اللثام عن وحش شدته الکاسر، أقسم أغلظ الأيمان وأتعسها علىٰ الإطلاق: (سأهدمُ للعرب کعبتهم!)، قسمٌ أودىٰ بحياةِ صاحبه، لکن لا بأس مِن الموت في سبيل البر بالقسم، فأنا أُقدر الشجاعة وإن کانتْ في غير موضعها، لنرى بماذا سيُقاد: بالشجاعة أم الحمَق: (نادوا حتىٰ تسمع طيور اليمن السعيد بقسمي!).
***
علىٰ الفور؛ أبرم قراراتهُ المتهورةَ، فيما يخص ذلك هو و(أبو جهل) وجهان لعملة واحدة، دوتْ أبواقٌ عديدة في السهول والوديان، طبول وطبول راحتْ تُقرع بلا هوادة، ومِن علىٰ يمين الکعبة الحقيقية شرعتْ الجنود الحبشية واليمنية في التقدم، راحتْ الفيلة العملاقة تدك الأرض دکًا، زُلْزِلتْ الأرض مِن تحتهم زلزالها، کانتْ الفيلة سيئة الطباع؛ وهذا کان کفيلًا بأن تقوم الدنيا ولا تقعد، امتلأتْ الوهاد بالوحوش المذعورة مِن هيبة الجيش العرمرم، وغابتْ الزواحف في شقوقها رُغمًا عنها، اختفتْ الثعالب البرية عن الأنظار؛ الآن جحورها أولىٰ بها، وحمدتْ أوتادُ الجبالِ ربها، لأن باطن الأرض يخفيها.
ترکوا (أبرهة) يؤدب البادية، ويلقن ساکنيها مِن رعاة الضأن والشاة درسًا قاسيًا.
***
اختارَ الداهيةُ لنفسه فيلًا عملاقًا، ثم عبأ جيشه وهيأ الفيلة کما يجب، زودها بالنواقيس؛ فمِن أعناقها رنتْ الأجراس، وفوقها اهتزتْ الهوادج، وبجوارها ومِن خلفها اصطفتْ الصفوف، ستون ألف مقاتل ما بين الفرسان، والمشاة، والرماة النشَّابة، وحملة الرماح، وحملة الفؤوس، لقد أحب أن يحيل مكة إلىٰ كومة حُطام، لکن للبيتِ ربٌ يحميه.
***
سارَ الأشرمُ منتشيًا يمسح القِفار والوديان، باثًا للعيون تستکشف له، حتىٰ بلغ بلاد خثعم مِن أرض العرب، فبرزتْ له قبيلتان هما (شهران وناعس) بقيادةِ خثعمي يُدعىٰ (نفيل بن حبيب) فارس عجز هذا الزمان عن أن يجود بمثله، وقف ذات صباح يتساقط الندىٰ مِن أطرافه النظيفة مثل الفضة، عازمًا علىٰ التصدي لذاك المعتدي، ومنعه مِن التقدم أکثر نحو بيت اللّٰه الحرام، فجمع قومه عن آخرهم ودخل بهم في حرب ضروس ضد أبرهة وجحفله، تمخضتْ تلك الحرب عن أسر الأخير للأول!
***
استأنف الطاغية زحفه نحو أم القرىٰ، مصطحبًا الخثعمي نفيل معه، يرصف في تذمر مِن ثقل القيد، بعد أن أخضع أُسد الشرىٰ مِن فرسان البادية، قامعًا لکل تمرد قد حدث بها، باتتْ الصحراء ملاذ الصعاليق ووکر التشرزم، بين يديه مثل لعبة الشطرنج يحرك قِطَعها کيف شاء وقت ما شاء، ملکه فيله أثار دبيبه حفيظة الأرض، طبيته حصينة، عساکره غفيرة العدد لا تؤکل.
***
ونزل في المغمَّس* وكانت مرحلته الأخيرة قبل بغيته المنشودة، ومِن هناك أرسل فرسانًا مِن الأحباش إلى مكة يقودهم رجله الأسود بن مقصود. انطلقوا يسعون لا يقفون لأحد، قبضتْ خيولُهم على شكيمتها وهي تنهب الأرض، وكانتْ دروعهم مقلوبة أسفل أكفهم. تجهم قائدهم في ركابهِ؛ ولم يهدأ حتى غزا تخوم مكة مِن جنوب شرقها، واستاق إبلها مِن أيدي الرعِآء، ثم عاد أدراجه إلى سيده بغنيمة كاملة ولم يلق حربًا.
كانت كَرَةُ فرسان الأشرم مِن على أفراسهم؛ بمثابةِ إنذار يسبق فيلته مباشرة.
***
وكان رجله الأسود بن مقصود، قد استاق فيما استاق مِن إبل أهل تِهامة؛ مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم سيد مكة مِن قُصي، وقصده عبد المطلب ليكلمه بشأن إبله؛ فرأى خيام الأحباش قد ملأتْ السهل، والأعلام فيها ترفرف وتتموج، وسفوح الجبال مُلِئتْ حرسًا شديدًا. وأُخِذ له الإذن بالدخول على أبرهة في دهليزه، واستقبله الرجل وأجلسه على بساطه وجلس معه. ورأى عبد المطلب بالفعل أن غرور أبرهة يؤتى أثره، إلا أنه آثر أن يقتصر كلامهما بشأن الإبل فقط، وقال أبرهة لترجمانه: قل له: حاجتك؟ ففعل الترجمان. فقال صاحب عير مكة: حاجتي أن يرد عليَّ الملك مائتي بعير أصابها لي.
وقال له أبرهة: قد كنتَ أعجبتَني حين رأيتُك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلَّمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلِّمني فيه؟
ورد عبد المطلب بعد أن استعاد حصافته قائلًا: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربٌ سيمنعه.
قال الأشرم في غضب: ما كان ليمتنع مني!
فجاءه الرد مِن رب الإبل في ثبات: أنت وذاك.
***
وانصرف عبد المطلب مِن عنده وإبله ترغو معه. وصباحًا حضر أبرهة بوجه جامد متجهم، وجنوده مِن حوله ليسوا بأقل منه تجهمًا، هنا سيُوضع حدًا لأمور كثيرة ليس لبدانتهِ فحسب.
وهکذا أفسحتْ القبائل له الطريق، ولم يقدر أحدٌ کائنًا مَن کان علىٰ التصدي له، حتى دخل مکة دون معاناة تُذکر، تفرقتْ قريش: هاموا علىٰ وجوههم في الشعاب* والوديان، وتحرزوا في رءوس الجبال غير مجتمعين، خوفًا مِن معرة الجيش وبطشهِ، کانت آخر يد حانية لمست باب الکعبة هي يد عبد المطلب کان يتأمل بنيان الکعبة غير مصدق، أن هذا مِن الممکن أن يحدث لبيت اللّٰه الحرام، اغرورقتْ لحيته الوارفة بدموعهِ الغزيرة، ليس لديه حيلة يقدمها وإلا لما تأخر، أغلق باب الکعبة، مكث يتحسس حلقته الحديدية في ألم، كان يردد أشعاره بدموع على لحنٍ حزين.
***
کل شيء بات على أُهبة الإستعداد، الأشرم يجأر في دهليزه، الفيلة لا تحرك ساکنًا، الجنودُ مُذعنة في صمت منتظرة الأوامر، ولما کانوا بين المزدلفة و مِنى؛ ركض نفيل بن حبيب مِن محبسه، وجاهد قيوده حتى وصل إلى الفيل، وأخذ أذنه كأنها قرن نفير، وردد فيها قائلًا: “ابرك محمود، أو ارجع راشدًا مِن حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام”.
وبرك الفيل دون حرکة، تسمر في موضعهِ، لم يحبذ القيام، لم تهضم أسماعهُ فکرة الهدم هذه، جاءه أمر إلهي (لا تبرح موضعك)، عندها راحت السياط تسري في لحمهِ، سالتْ دماؤه دون مبالاةٍ منه، لم يغض الطرف عن ما أُمر به سينفذه في ثبات. وکانوا کلما وجَّهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقوم يهرول، وإذا صرفوه إلى الکعبة برك دون حركة، ظل الوضع على تلك الحال، حتى فُتحت فجوة في السماء مِن فوقهم، فأظلتهم سحابة سوداء مفزعة، تغير الطقس معها مائة وثمانين درجة على غير العادة، وسُمعت قعقعة صاخبة مِن فوق، كأن في السماءِ بواباتٌ عظيمة تطقطقُ على مفصلاتها، ماذا يحدث؟!
***
كانت هناك نقاط سوداء غفيرة في السماء الغربية، تركب جناح الريح: جاءتْ الطير الأبابيل مِن ناحية البحر، أمثال الخطاطيف* والبلسان* تتقدم في شوطِ سباق، يحملُ کلُ طائر منها ثلاثة أحجار صغيرة کحب الحمص، لکنها مِن سجيل* إذًا کم هي کبيرة.
احتلتْ السماء مِن فوقهم، وألقت حمولتها مِن علٍ، كانتْ لا تصيبُ أحدًا مِنهم إلا صارتْ تتقطع أعضاؤه، ولا يستثنون. وخرجَ الأحباشُ يهيمون في كل واد، والحجارة لا تُبقي ولا تزر، ولمَّا رأهم نفيل بن حبيب أنشد يقول:

أين المفر والإلـــه الطالب ** والأشرم المغلوب ليس الغالب

وأنشد يقول حين كانوا يهرعون إليه ليدلهم على طريق اليمن:

حمدتُ الله إذ أبصرت طيرًا ** وخفتُ حجارة تُلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نُفيل ** كأنَّ عليَّ للحبشان دينا

يا إلهي کم تمهل الظالم المتعنت لکن لا تفلته إذا أمسکته، لو علم کل جبار أنَّ فوقه جبار أعظم منه لما تجبر، هلك (أبرهة) أراح اللّٰه اليمن مِن بطشهِ.

بعد خمسة وخمسين يومًا مِن حادث الفيل؛ وُلِدَ النبي – صلى اللّٰه عليه وسلم – لأبٍ مِن بني هاشم، وأم مِن بني زُهرة.
***
*المغمَّس: موضع في الطريق بين مكة والطائف.
* القُلَّيس: مشتقة مِن “قلسن” بالحميرية وتعني كنيسة، وهي كنيسة أو کعبة أبرهة.
* الشِعاب: جمع شِعب، وهو الطريق بين الجبال.
*الخطاطيف: جمع خطاف، وهي نوع مِن الطيور سوداء اللون.
* البلسان: نوع مِن الطيور قال عباد بن موسى: أظنها الزرازير.
* سجيل: وادٍ في جهنم.
***
#حادثة_الفيل 🐘🐘
#خواطر_في_السيرة_النبوية📗
#محمد_سامي ✍👤🤠

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
زر الذهاب إلى الأعلى