خرافة الإلحاد ، وصندوق حامد عبد الصمد

بقلم : حسام الدين عوض
لي صديق ألمانيُ ملحد ، ما أن نلتقي حتى يحدثني عن مغامراته النسائية وعلاقاته الخاطفة المتعددة ، وفي المرات الخجولة التي ناقشنا فيها مسألة الأديان ، كان يكرر الكلام عن تعدد زوجات الرسول محمد ، وعن دعوى زواجه من عائشة وهي صغيرة! وأنا أجيبه في كل مرة بأن الرسول عاش أكثر عمره الخصب (خمسة وعشرين عاماً) مع زوجة واحدة هي خديجة ، وبموتها استوت عنده جميع النساء ، ثم أؤكد له أن العادات الاجتماعية في المجتمع الذي نزل فيه الدين ليست ديناً! بل ولايتعلق شئٌ منها بالتشريع لأنها متغيرة ، فلايكون منه -أخيراً- إلا أن يغلق باب الحوار حتى لايضربه سهم التفكر فيقطع عليه حبال متعه الزائلة الزائفة!
لهذا بتُّ مقتنعاً أنَّ الإلحادَ فكرةٌ هُرُوبيةٌ سلبيةٌ تستعصي على محاولات الفهم ، وترفضُ التسليم بضعف الإنسان وفقره وعِوَزِه ، قوامُها: بما أنَّ أديانَكُم غير مثالية ، وشخوصكم غير مثالية ، وأنبياؤكم بشرٌ يصيبون ويخطئون .. فلا دين! دعنى أستمتع بحياتي ولاتحدثني عن الله!
التطور .. تلك التَّكِئةُ النّكِدة!
وكنتُ -مع هذا- أُشفِقُ على عقل الملحد الذي يرفض الإقرار بإحكام هذا الكون وضبطه وفق قوانين لاتنخرمُ أبداً! فإن قال: إن الكون هو الذي وضع هذه القوانين لنفسه بنفسه! فيقال له كيف؟ والكون أصمٌ غيرُ عاقل ، والإنسانُ العاقلُ قد فكّ رموز بعض هذه القوانين وأخضع بعض هذا الكون له! فعندها لابد من التسليم أنَّ الكون لم يوجد نفسه! وإنما أوجده وأوجد الإنسانَ العاقلَ ؛ خالقٌ عظيمٌ مطلقُ القدرة والحكمة.
هذا الخالقُ العظيم قد أحكمَ الكون ، وأبدعَ الخلق ، وصنع توازُناً عجيباً تشهدُ عليه أعدادُ وأعمارُ الحيوانات والطيور التي تتكاثرُ أكثر من الإنسان! ووُجِدَت على الأرض قبله ، لكنّ متوسطات أعمارها أقل من متوسط عمره! ماجعل أعدادها محدودةً قياساً إلى أعداد البشر الهائلة ، فهل يمكنُ أن يكونَ كلُّ هذا عبثاً؟
فإن قال الملحدُ: إنّ الموجودات الحية قد تطوّرت كلُّها من خليةٍ واحدةً وُجِدت بمحض الصدفة. فيقال له: وهل تلك الأعمارُ المقدَّرةُ بميزان دقيق للحيوانات والطيور والأشجار والأفلاك التي عاش بعضها قبل ملايين السنين ، قد تواطأت جميعُها على منح الإنسان دون غيره سمة السيادة عليها جميعاً رغم أنها وجدت قبله؟ أم إنَّ خالقاً عظيماً يقفُ وراء كلِّ هذا وقد اختار الإنسان ليسود رغم أنّ وجوده على الأرض تأخر على وجود معظم كائناتها وعناصرها (عمر الأرض 4.5 مليار سنة ، فيما تاريخُ الإنسان لايكاد يصل حتى إلى 100 ألف سنة وفق أكثر الدراسات الحفرية تفاؤلاً)!
وأنا بالمناسبة لا أنكرُ نظريةَ التطوُّر ، بل أنكرُ اتخاذها تكئة للزعم بأنَّ هذا الكونَ العظيمَ المذهلَ المعجزَ صنعةٌ بغير صانع!
ملاحظة: العدد الإجمالي للنجوم في الكون أكبر من عدد جميع حبيبات الرمال على جميع شواطئ كوكب الأرض ، هذه المعلومة المذهلة قالها عالم الفلك والأستاذ الجامعي الأميركي كارل ساغان في برنامجه التلفزيوني «Cosmos» منذ نحو ثلاثين عاماً ، وقد أثبتت الفيزياء الحديثة صحة كلامه. (عددها 70 ألف مليون ، مليون ، مليون نجمة وفق أحدث التقديرات)
كيف قامت الذئاب بتغيير الأنهار؟
تحت هذا العنوان للدراسة المذهلة التي نُشِرَتْ للجمهور من خلال مقطعٍ فيديو على يوتيوب شاهده نحو 50 مليون مستخدم حول العالم ، كشفَ لنا العلمُ سراً عظيماً يتعلق بالنظام البيئي الذي يزعم الملحدون أنه عبث!
في متنزه يلوستون الوطني الممتد بين بين أيداهو ومونتانا بالولايات المتحدة الأميريكية ، وحين عادت الذئاب سنة 1995 بعد غيبة استمرت سبعين سنة ، وهي الآكلات المفترسة التي تتغذى على الغزلان ، عادت الأشجار لتبسق من جديد نظراً لغياب الغزلان التي كانت تلتهمها! وبعد ان كانت أطراف الوادي جرداء ، وفي ظرف ست سنوات فقط ، تحولت إلى غابات كثيفة من أشجار الأسبن والصفصاف والقطن ، فعادت كثيرٌ من الطيور التي هجرت المتنزه ، وعادت معها القنادس والأرانب والفئران التي تحب أكل الأشجار!
ولأن النباتات تزيد من قوة التربة ، فقد تسبب ذلك في تعديل مسار النهر ، وقل معدل تآكل التربة في المنطقة ، وهكذا فقد تسبب غياب نوعٍ واحدٍ من أنواع الحيوانات في اختلال التوازن البيئي كله! فهل حدث هذا وغيره في تلك البقعة المحدودة جداً من العالم بمحض الصدفة؟
لعل هذا يذكرنا بـ ‘تأثير الفراشة’ الذي تكلم عنه الفيزيائيون خلال القرن الماضي ، فراشةٌ تضرب بجناحيها في طوكيو ، فتقع سلسلة من الأحداث تنتهي بإعصار مدمر في نيويورك! وقد رأينا ذلك ماثلاُ للأعين في ماسمي بـ “الربيع العربي”! والذي بدأ بمواطنٍ تونسي بائس يائس ، قرر حرق نفسه! لتقع بعدها سلسلةٌ من الأحداث التي انتهت بتهجير ملايين السوريين وتدمير أكثر من نصف الحواضر السورية ، والأيام حبلى لاندري ماتضع!
حامد عبد الصمد ، والإسقاط الخاطئ!
منذ شهرين شاهدتُ مناظرةً كان طرفاها الملحد المصري الحاصل على حق اللجوء السياسي في ألمانيا ‘حامد عبد الصمد’ ، والباحث المغربي في الإسلاميات ‘محمد بن الازرق الأنجري’.
لم تكن كأي مناظرة ، فلاطرفاها يجلسان متقابلين فيما يتوسطهما مذيعٌ يعملُ على تهدئتهما حتى لايتبادلان اللكمات بعد جولات التلاسن والتطاحن! ولا الطرف الإسلامي حريصٌ على إفحام المعارض ، وإلقامه حجراً حتى يشفي عطش جماهير المتدينين الذين يطعنُ الملحدُ في أصولهم!
كان حواراً هادئاً رشيقاً ورقيقاً .. وكأنّ الطرف الإسلامي قد أدرك -أخيراً- مقولة الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- حين قال: “إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغّضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم”.
كان عبد الصمد يكرر الموضوعات المستهلكة التي أثار المستشرقون غبارَها ؛ النظرة إلى المرأة – ملك اليمين – السبي – الجهاد .. الخ ، كان يذكرُ النصوص القرآنية ، ثم يعضد انتقاده لها بما يذكره من الشروحات والتفسيرات التي جعلها بعضهم ديناً! وكان الأنجريّ يردّ بتفسيراتٍ مختلفة لم يعهدها ولم يعتد عبد الصمد سماعَهَا!
قال له عبد الصمد: ماتقوله جيّد لكنّه لايتعلّقُ بسلوكيات المسلمين! هل هذا حال من وصفوا بأنهم “خيرُ أمّةٍ أُخرِجَت للناس”؟ والأنجري يردُّ: نحن نتحدث عن الإسلام وليس المسلمين! الله تعالى وضع القوانين وامتحن الناس بالخلق والرزق والحياة والموت ، وسوف يحاسبنا جميعاً على ماقدمت أيدينا يوم العرض الأكبر عليه سبحانه.
ازداد إشفاقي على عبد الصمد وعلى أمثاله ، ويكأنهم هكذا قرروا الهروب! نظروا في واقع الأمة الذي أوافقهم في كونه مزرياً ، ثم ربطوا بينه وبين النصوص التي أشكلت عليهم ، فقفزوا إلى هذا الاستنتاج الخطير الذي مؤداه أن يسود العالم قانون الغاب! فإذا كان المؤمنون يفعلون كذا وكذا رغم قناعتهم بمبدأ الحساب والعقاب في الآخرة ، فما الذي يمنع غيرهم إذن من ارتكاب ماهو أفظع وأشنع؟ ماداموا مقتنعين ألا حياة بعد الموت! فلنغترف منها إذن بقدر مانستطيع!
الحوار الافتراضي بين الله وهوكينج!
في إحدى خطبه ، تصوَّر الدكتور والفيلسوف الألمعي عدنان إبراهيم حواراً جدلياً يفترضُ به أن يحدث يوم القيامة بين الله تعالى وبين الفيزيائي الأشهر ستيفن هوكينج الذي قضى نحبه في العام 2018 ملحداً لايؤمن بوجود الله.
قال عدنان: لعلّ الله سوف يسأل هوكينج يوم القيامة ؛ لماذا كفرت بي؟ سيرد هوكينج: أنا كفرتُ بإله دموي ارتُكِبَتْ باسمِه مذابحُ مُروِّعَة ، وقُتِلَ باسمِهِ ملايينُ الأبرياء ، فيما الكهنةُ ورجالُ الدين ينامون على الفُرُشِ الوثيرة ، ويتنعمون بأكوام الذهب والفضة!
سيضيف: أنت امتحنتني بهذا المرض الذي عانيتُ معه في كل لحظة عشتُها على امتداد خمسين سنة ، وبالرغم من هذا فلم أفقد إنسانيتي التي أودعتني إياها يوماً أو بعض يوم ، فرغم كوني إنجليزياً ، لكني آمنت بحق الفلسطينيين في وطن آمن لهم ، وأدنتُ العدوان الإسرائيلي على غزة في 2009 ، وقاطعتُ مؤتمراً إسرائيلياً في 2013 وكنتُ -حين شبابي- عضواً في حركةٍ ترفضُ الحربَ الأميريكية في فيتنام ثم في كهولتي وصفتُ غزو العراق بأنَّهُ جريمةُ حرب ، لأني آمنت بالحق وبالعدل وبالخير.
وأخيراً سيقول: نعم أنا ضللتُ في آخر عمري المديد ولم أهتدِ إليك ، ظننتُ أنّ الكون الذي هو محلّ بحثي قد أوجد نفسه بنفسه! هكذا هداني عقلي القاصر وعلمي المحدود ، فإن كنتَ ترى أني قد فعلتُ هذا استكباراً وجحوداً فأنا الآن بين يديك ؛ عاملني بعدلك! أما وأنت تعلمُ أني لم أؤذ أحداً ولم أتعمد الإساءة إلى بعض مخلوقاتك ، فاعفُ عني واغفر لي وتجاوز عني وعن زلاتي.
فهل يحدث هذا الحوار فعلاً؟ مع هوكينج ومع غيره من أرباب الإلحاد؟ الله أعلى وأعلم.