
تقف وحدك على أرض متزلزلة تخسف بالمفاهيم من حولك لتسقط في هوة عميقة تتلاطم فها أمواج ( اللافا أو الحمم البركانية ) لتصهر كل ما يسقط فيها بلا هوادة مطلقة أبخرة متعددة الألوان والرائحة، هكذا بالضبط أرى فلسفة ما بعد الحداثة، ولكن هل كان الأمر كذلك دومًا ؟ .. لا .. لقد كان الكون مختلفًا تمامًا .. دعنا ننظر للوراء .. بعيدًا جدًا .. ولكن أولًا علينا طلب حجرين جديدين من النادل .. فالشرح قد يطول قليلًا ..
كل شيء كان يبدو منضبطًا .. الإنسن اكتشف قوة البخار .. اخترع الآلة البخارية .. الاكتشافات والاختراعات تتوالى .. الإنجازات العلمية والطبية في تزايد مستمر .. هذا هو عصر العقل .. وهيمنة فلسفة الحداثة على كل شيء بعد قرون رزحت فيها أوروبا تحت هيمنة الفاتيكان ومحاكم التفتيش .. كل شيء له تفسير علمي الآن .. أو سيكون له تفسير علمي في يوم ما .. الأمور صارت واضحة .. الكون منتظم .. الإنسان أحكم قبضته على العالم أخيرًا .. حتى أحجار المعسل في ذلك الوقت كانت منضبطة وموثوق في جودة تبغها ومصدره .. لا شيء يعلو فوق دخان المعسل الذي جعل من جندي بائس في إحدى الفرق الألبانية اسمه محمد علي إلى باشا مصر.. ولكن هذا ليس موضوعنا على أية حال .. المهم أن تتذكر دائمًا أن شعار هذه المرحلة ” كن شجاعًا .. واستخدم عقلك بنفسك ” .. لا للتفسيرات الخرافية .. لا للمعتقدات الدينية .. العقل والعلم والعلم والعقل ..
ولكن بحلول النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين بدأت الأمور تتخذ منحى جديد .. منحى شديد الخطورة .. أن الأشياء ليست كما تبدو .. النظريات العلمية ليست متماسكة إلى هذا الحد ، بل يهدم بعضها بعضًا كل يوم .. المفاهيم تتغير وتتبدل .. تتقارب وتتباعد .. العلم يتزعزع .. الدين يترنح .. والفلسفات تتآكل .. اختفت ألوان مثل الأبيض الناصع والأسود القاتم تاركة الرمادي يصبغ كل شيء بصبغته الباهتة الكئيبة .. لم يعد هناك يقين في أي شيء ، وانسحق الإنسان أمام شعوره بالضآلة والعدمية والتذبذب ، وهو يرى الأرض تتزلزل من أسفل قدميه كذلك المشهد الذي بدأنا به حديثنا .. حتى أحجار المعسل صارت مريبة أكثر من اللازم .. ولم تعد تجد فيه نكهة التبغ المميزة له .. وما زال الإنسان حائرًا أمام العصر الجديد .. عصر ما بعد الحداثة..