تفكيك أوهام الحسد والعين (2)

بقلم: حسام الدين عوض
كنتُ قد كتبتُ في الحلقة الأولى من هذا الموضوع أناقشُ أدلةَ من عرَّف العينَ على أنها شررٌ فتَّاكٌ يخرج من عين الحاسد أو العائن فيردي المحسود أو المعيون ، وفي هذه الحلقة أناقشُ أدلتهم من السنة ، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: خبر سهل بن حنيف:
عن أبي أمامة سهل بن حنيف ، قال : (مر عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف ، وهو يغتسل فقال : لم أر كاليوم ، ولا جلد مخبأة فما لبث أن لبط به ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : أدرك سهلا صريعا ، قال: ” من تتهمون به ” قالوا عامر بن ربيعة ، قال : ” علام يقتل أحدكم أخاه ، إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه ، فليدع له بالبركة ” ثم دعا بماء ، فأمر عامرا أن يتوضأ ، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، وركبتيه وداخلة إزاره ، وأمره أن يصب عليه قال سفيان : قال معمر ، عن الزهري : وأمره أن يكفأ الإناء من خلفه) رواه ابن ماجة وغيرُه
والجواب عليه كالتالي: هكذا وبكل بساطة أيها الإخوة والأخوات .. يمرُّ صحابيٌ بآخر وهو يغتسل !! (لم يطلعنا هذا الخبر كيف يغتسل المرء فيما الناس يمرون به بهذه البساطة) !! ثم ماذا ؟؟ وقع سهل بن حنيف صريعاً !! فلما جاءوا به إلى النبي قال لهم: من تتهمون به !!
هكذا مرةً واحدة .. توجد تهمةٌ في انتظار إلصاقها بشخص!! رغم أن هناك أكثر من احتمال لصرع إنسان .. ربما ألمَّ به مرض عضوي ؛ ربما مرض نفسي ؛ ربما سقط عليه شئ ؛ ربما شدة حر الشمس ؛ ربما قذفه أحدهم بحجر ؛ ربما .. وربما .. وربما ..!
المهم .. فقالوا : عامر بن ربيعة .. هكذا تتم إلصاق التهمة بصحابي آخر (أين هؤلاء من النهي عن الكلام في مقام الصحابة؟) ثم ودون أن يترك له حقُّ الدفاعِ عن نفسِه .. ودون قرينةٍ واحدة!! فقط كلمات قالها ولاندري كيف سمعوها أم سمعها المصروع وهو في صرعه (ولابدّ أن الصحابي كان يغتسل في حضرة عددٍ غفيرٍ منهم إذن) !!
ومع هذا يأمره النبي أن يتوضأ (المتهم) فيأخذ ماء وضوئه ليلقيه على المصروع .. ثم ماذا ؟؟ لاشئ!! يتوقف الخبر عن إطلاعنا على تفاصيل ماجرى للمصروع .. !! هل أفاق من صرعه؟ هل شكر الرسول على مافعل؟ هل لام العائن أو تحدث معه؟ لا شئ! يتوقف الخبر عند هذه اللحظة ويسدل الستار !
ثم يراد لنا أن نُصَدِّقَ خبراً كهذا .. ليس له جذرٌ ولا أصلٌ في كتاب الله تعالى ، ولم ترد رائحته في أصحِّ الكتب: البخاري ومسلم !! رغم أنه بهذا القدر من الأهمية حيث يتناولُ مسألةً لايكادُ يخلو منها بيت واحد!! وحين نردُّ هذه الأخبار يقال لنا: تنكرون السنة! فإنا لله وإنا إليه راجعون
وبفرض صحِّة بعض مافي هذا الخبر من أحداث ، فأقصى مايمكن أن أفهمه أنا منه: أن رسول الله أراد تطهير نفس العائن تجاه المعيون (أو الحاسد تجاه المحسود) وتطييب خاطر المعيون (أو المحسود) وتسكين نفسه عند اشتراكهما في الوضوء بماءٍ واحد
ثانياً: حديث “العينً حقَّ .. “
وهو حديثٌ صحيح ورد في صحيحي البخاري ومسلم وإن بألفاظٍ مختلفة ، وهذا الحديث الشريف قد يُفهمُ منه أمران:
- أما الأول: فالعينُ في ذاتِها ضَرَرٌ وشرٌ وشرر (قالوا: تنبعِثُ منها جواهر لطيفة “إشعاعات” تنطلق من عين العائن وتتدفق في الهواء فتضرب كالسهم في كبد المعيون لترديه)
- وأما الثاني: فما يترتَّبُ على ذلك النظر الحانق الممهور بالحقد والغيظ من تربُّص العائن بالمعيون بقولٍ أو فعل ، وسعيه في أذاه إيذاءاً مادياً أو حسياً .. (ثمرةُ العينِ وأثرُهَا لا ذاتها)
فما الذي يصرفُ المرادَ من الاحتمال الأول إلى الاحتمال الثاني؟ أقول: يصرفه أربعةُ أدلة:
الأول: فالقرآنُ العظيمُ لم يرد فيه شئٌ واحدٌ صريحٌ يشيرُ إلى هذا التصوِّر الذي ظنوه ، وقد ناقشتُ أدلتهم فأبطلتُها جميعاً في الحلقة الأولى من هذا الموضوع والحمد لله رب العالمين ، وكيف بأمرٍ بهذا القدرِ من الأهمية بحيث لم يعد يخلو منه بيتٌ واحد ، وقد تسبب في صدع عشرات الأسر ، وتخويف الناس من بعضها البعض ، ثم لايكون له في القرآن أثرٌ واحد ، ثمَّ كيفَ والقرآنُ العظيم قد أسهب أيما إسهاب في تصحيح العقائد ، وضبط التصورات ، ونقد الأساطير ونقض الأوهام ونفض الترهات والخزعبلات.
الثاني: أنّ العقلَ يأباه ، وإلا لسمعنا أنّ العين قد أسقطت مبنىً سكنياً؟ أو أحرقت سيارةً فارهةً؟ أو دمَّرت قصراً مشيداً؟ فإن قال قائلهم: لكنّها لاتصيبُ الجمادات ، وإنما ذوات الأرواح فقط ، فيكون الجواب عليه من وجهين:
أما الأول: فكلامهم هذا يشتملُ على أقصى درجات التحكُّمِ المُتَكَلَّف والمُمَاحَكَةِ المُتَعَسِّفُة! وليس لهم على مثل هذا التخصيص دليلٌ واحدٌ من شرعٍ أو عقل
وأما الثاني: فلماذا لم نسمع مرةً واحدً من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد اصطحب في جيشه بعض العائنين فوضعهم في مقدمة الجيش حتى ينالوا من أعدائه؟ أوليسوا ذوي أرواح؟
فإن قالوا: لاتنفعَ العين في حالات مواجهة الجيوش أيضاً ولا تنفعُ مع الأعداء .. قلتُ: لادليل عندكم من الكتاب أو السنة على هذه التخصيصات المتعسفة الظاهرة التكلف ، والتي تسقطُ تخصيصكم الآنف المتعلق بذوات الأرواح!
الثالث : أنَّ من شأنه إثبات جريمةٍ مؤكدةٍ بغير قرينة ، والمجرِمُ مُحتَمَل! فالمعنيون بدراسة القانون يعلمون أن القرينةَ أحدُ أركانِ الجريمة ، ولدينا هنا جريمةٌ لاقرينةَ عليها ، فكيف يحصلُ المتضرر على حقه إذن؟ أيذهبُ للقاضي فيقولَ له: إنني أتهمُ فلاناً بظني؟ (والظنُّ أكذيُ الحديث) أنه أطلقَ من عينِيهِ شرراً قاتلاً فأرداني صريعاً؟ هذا والله مما تضحكُ منه الثَّكلى!
الرابع: أنه يسقطُ الأسباب التي أمر اللهُ تعالى المسلم بالتماسِها ، ويفتحُ أبواب الأوهام والتخرصات والاتهامات ، فلو كان مايقولونه حقاً لأرجع كلُّ إنسانٍ أسباب فَشَلِهِ في كلِّ باب وعزا عِلَلَ اعتلاله من كلِّ نَفَسٍ .. إلى العين التي تصيبه! فتمنَعُهُ تارةً من العمل وكسب الرزقِ (صدق الفاروق عمر بن الخطاب وهو يقول: لايقعدنّ أحدُكُم عن طلب الرزق ، فإن السماء لاتمطرُ ذهباً ولا فضة) وتحولُ تارةً بين ابنِه وبين استذكار دروسِه ، وتحرمُ زوجتِه تارةً من الحمل والولد ، وتوقفُ العرسان تارةً عن طرق الأبواب لخطبة ابنته ، وهكذا …
حتى يصبحَ الإنسانُ أسيرَ الأوهام وحبيسَ التخييلات ؛ وبدل أن يستفرغ جهده في الاعتراف بأخطائه وحل مشكلاتِه ، إذا به يتنصَّلُ من مسئولياته ليُلقِي باللائمة على غيرِهِ ممن أصابَهُ بعينه! وليس يجدرُ مثل هذا بالمسلم ولا بالإنسان أصلاً كما يجمِعُ عليه جمهور العقلاء قبل العلماء.
ثم فوقَ هذا وبعده وقبله ، يظلُّ يلتمسُ اسباب الانتقام ممن أطلق تلك الشرارة المزعومة بقصد إهلاكِهِ وإردائه ، فينتشرُ التباغضُ والتنافرُ بين المسلمين ، وتسري بينهم العداوةُ التي يأباها اللهُ ورسولُه.