بيوتٌ أذِن الله أن تُرفع.. فماذا ننتظر

لما ابتليت القيروان، حاضرة شمال أفريقا بالقلاقل في عهد الأغالبة، اضطر الكثير من سكانها من عرب الفتوحات الأولى إلى الهجرة تجاه المغرب الأقصى، فوجدوا في فاس منزلًا لهم ومستقرًا، وكان منهم رجلٌ ذا مالٍ عريض وتجارة واسعة يدعى محمد الفهري، له من الأولاد ابنتان أحسن تربيتهما واجتهد في تعليمهما، حين لم توجد حلقات درسٍ للإناث.
فلما مات حزنتا عليه كثيرًا وعزمتا على أن تثيباه. فشرعت فاطمة في تشييد مسجدٍ عظيم مما ورثته منه ومن زوجها، في عدوة القرويين (سكنى القيروانيين) من وادي فاس، ليكون معهدًا للعلم فيتسنى لها حضور حلقات الدرس بنفسها. فيما شرعت أختها مريم في تشييد مسجد ثان في عدوة الأندلسيين المقابلة (سكنى الأندلسيين).
ونذرت فاطمة الصيام ريثما يكتمل مسجدها، وأمرت أن لا يؤتى بتراب وأحجار البناء إلا من أعماق أرضه لتلافي أية شبهة. ولما كانت ذات درايةٍ بالحساب، تابعت بنفسها تخطيط أجزائه وتأمين مواده وأشرفت على بنيانه، حتى اكتمل صرحه بعد عشرين سنة، فأفطرت وصلت لله شكرًا في فناء المسجد، وبدأت تدعو العلماء إليه.
فكان جامعة القرويين، التي تخرج منها الإدريسي الأندلسي وابن رشد القرطبي وابن البنا المراكشي وابن خلدون القيرواني، أول جامعةً في العالم بحق، سبقت أقدم جامعة أوربية بأزيد من قرنين من الزمن حسب موسوعة غينتس.
فكرت في ذلك كله بينما أجول بناظريّ أرجاء مسجد الحيّ هذا، ريثما امتلأ بالملبّين لنداء العشاء وقد بلغوا المئات حتى ضاق بهم، وأنا أتساءل: ما يمنع مساجد اليوم أن تصبح حاضرات للفكر ولوجوه النشاط الإنساني مع كونها بيوت عبادة؟
ثم ساقني التأمل إلى منزلة المساجد في الإسلام، أهي مقصودة أم مبالغ فيها؟ لمَ تعدِل صلاة الجماعة في المسجد خمسٍ وعشرين (أو سبعٍ وعشرين) صلاةً في البيت؟ علمًا أن من ديدني التساؤل فيما بلغنا من المرويات، مالم يقم دليل محكم على ثبوتها.
فجلست بعد ذلك ألتمس فضائل الجماعة في المساجد، الواحدة تلو الأخرى حتى أحصيت ثلاثين فضيلةً -دونتها في الفقرة اللاحقة لمن يغريه الفضول- وقد بهرني ذلك وصدمني في الوقت ذاته، طالما كان للمساجد من الفضل ما ذكرت، لا يبعد أن يكون لثواب الصلاة فيها من الأجر ما وَرَد. ومن جفاها فقد جفا وِردًا عظيمًا من أوراد الخير الروحي والدنيوي.
لكن مهلًا. إن كانت غاية المسجد أن ألبي فيه نداء الصلاة بعجالةٍ ثم أنصرف، فإنه يخسر منزلته. كيف لا وقد ورد في الحديث أنّ من عاد مريضاُ فقد زار الله، وأن من أطعم جائعًا فقد أحسن لله، وأن المشي في حاجة مؤمنٍ خير من الاعتكاف في مسجد رسول الله. ولا يبعد أن يكون أجر الساعي لإطعام أسرته أو لقضاء حوائجه مثل ذلك. فأين لنا الوقت لذلك كلّه؟
إنّ الصرح الذي ينفق من أجله الكثير، لا يفقد دوره وحسب إن أمسى مهجورًا، بل ويفقد الفضائل التي ألقيت عليه طالما لا يجتمع الناس فيه غير دقائق معدودة، ثم يتفرّقون وكأنهم ما اجتمعوا! كيف ينال المسجد شرفه الرفيع إن لم يرتق بأهله ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، وإن لم يرتقوا به مئذنةً للعلم والأدب والعبادة؟
أتمنى أن تتوفر للمسجد شروط -أفردت لها فقرة أخرى رجاء عدم إطالة الموضوع الأساس- تجذب النفوس كي ترنو إليه شوقًا، وتنير العقول كي تهفو إليه طلبًا. فيصبح مركزًا للعبادة ومنتدى للتوعية ومنارة للمعرفة وقبلة للإلتقاء والتحابّ في الله. المطلوب هو تفعيل دوره ليصبح «جمهوريةً» مصغّرة وسط الحي، يتعلم فيها الناس المسؤولية ويمارسونها تجاه بعضهم بعضا.
أما آن للمساجد وهي تدعونا للإستيقاظ من النوم أن تستفيق؟ بلى، وسأحثّ من اليوم خطاي إليها، ولكن بنية أن أفيد وأستفيد.
فضائل الصلاة في المسجد باختصار
1. الخروج بنية الصلاة ومنها التعريج إلى أداء أشغالي يجعل نيتي رضى الله قبل أداء حوائجي الدنيوية
2. خروجي إلى المسجد يقتضي انتصار إرادتي على أهوائي، فأتعلم أن الإرادة هي أساس الانتصار في الدنيا والآخرة
3. المشي إلى المسجد يمنحني جرعة دورية من النشاط الجسمي وأتنشّق الهواء الطلق
4. السير إلى الصلاة بعد النوم أو بعد تناول الوجبات يساعد في الهضم وفي حركة الدم وضخ الأوكسجين للدماغ
5. وقبل خروجي إليها أتزين وأتطيب وأتجمّل وأستنجي من الأوساخ المادية والمعنوية
6. حين أذهب إلى صلاة الجماعة أنقطع عما كنت فيه من جدال أو لهو أو عبث لا طائل منه
7. وفي طريقي إليها أذكر الله بالتهليل والتكبير، وأذكره في طريقي منها بالحمد والاستغفار فتطيب نفسي ويزول الغمّ
8. البعد عن منزلي ومشاغلي وأهلي إلى مكان لا يوجد فيه ما يثير اهتمامي غير العبادة يكسبني قسطًا من التأمل الروحي
9. وأشعر بألفة الانتماء إلى مجتمع المصلين ولو كنت مختلفًا في الظاهر عنهم
10. تذوب في نفسي الفوراق بين الأغنياء والفقراء وبين المتعلمين والبسطاء وبين الأعيان والعوام فتزداد ثقتي
11. اختلاف اللهجات والأعمار والألوان والأزياء وإقبال الجميع لتلبية الأذان يجعلّ المسجد أولى بصفة الـ «تمدّن» من أي مكان
12. الفوارق في طريقة الصلاة رغم اقتداء الجميع بإمام واحد يعلّمني أن الدين لله وليس للإمام ولا لغيره، واختلاف الرأي لا يفسد المودّة بين المصلّين
13. في المساجد أمارس النظام وأحرص على النظافة وأحفظ الأملاك العامة
14. وفي المسجد أتعلم الهدوء وخفض الصوت وقلة الكلام وأدب الاستماع لحديث الآخرين
15. أعطر سمعي بآيات قرآنية لا أحفظها، وقليلًا ما أقرؤها
16. الوقوف في صفوف وراء إمامٍ واحد يعلمني الانضباط والاقتداء أسوة بالآخرين
17. نقف جميعًا سواسية كأسنان المشط. وقد يقف الكبير خلف الصغير ويسجد الغني عند أقدام الفقير وانتظام الجميع هو الأساس
18. تقفز إلىّ ذهني معان ودلالات ما خطرت لي في السابق أسمع القرآن من فم غيري
19. والإنصات إلى المقرئ يساعدني في تجاوز أخطاء الحفظ وفي تحسين قراءتي
20. يوفّر المسجد جوًّا روحيًا لا يتوفر في البيت، إذ أن القنوت والسجود والركوع مع الراكعين لله يدخلني في طمأنينة التسليم
21. وفيه تبدّد المشاعر السلبية، فيزول الغضب وتهدأ الكراهية وتتبدّد الشهوات ويخف الكبرياء، والتواضع لله هو سمة المصلين
22. وتواضع الجميع لبعضهم فرصةً لهم فيعبر المتكلّم عن مؤهلاته ويخرج الخجول من انطوائه
23. تبادل التحايا وتجاذب أطراف الحديث يجلب السرور والمنفعة ويعرّفني على الأصدقاء
24. في المساجد نتعلم التبسم في وجوه بعضنا رغم أننا لسنا في مكان تبادل المصالح
25. تعرف الناس على بعضهم يؤدي إلى تلاحمهم. غياب أحدهم مثلا يثير التساؤل، كما يتداعى السكان لإغاثة بعضهم
26. والتفاعل مع الغرباء ومخالطتهم وجهًا لوجه تؤدي إلى تطوير مؤهلاتي الشخصية وقدراتي على التأثير فيهم
27. وأتعرف على ذوي الحاجات ممّن يقصدون المساجد طلبا للعون فأجود بما لا يثقل كاهلي وتعينني الصدقة على حوائجي
28. يجتمع صغار الكسبة أمام المساجد لعرض سلعهم فيجد المصلون بعض حاجاتهم من غير صرورة إلى مغادرة الحيّ
29. بيت الله يبعدني عن الدنيا وهمومها وعن المعيشة ومتاعبها ويدخلني في أجواء تنجلي فيها المخاوف ويسود الأمن
30. في المساجد نتفقه في ديننا وتتهذب أخلاقنا وتزداد معارفنا
شروط بلوغ المساجد غايتها في إصلاح وتنمية المجتمع
1. ألا تتحكم فئة دون سواها في تسيير المسجد، وأن تكون إدارته منتخبة من أبناء وبنات الحيّ وليست مفروضة
2. ان تبقى إدارة المسجد مستقلة عن التيارات السياسية والدينية. وألا تحشد تأييد المصلّين للزعماء السياسيين أو الدينيين
3. أن يكون المسجد فضاءً للرحمة. وألا يثير الخطباء الكراهية تجاه ملّةٍ أو حزبٍ أو سلف، وإلا تحول إلى بؤرة لنشر الكراهية
4. أن يسود حرم المسجد النظافة التامة والنظام والتهذيب، وقواعد مفصلة تقرّها الإدارة فيحترمها الجميع دون استثناء
5. أن تركز الخطب والدروس على تأديب الناس وتوعيتهم، لا على «تفقيههم». فالفقه اختصاص وأما الأخلاق فهي فرض
6. أن يكون فضاءً مفتوحًا للناس، وأن يرحّب بتنوع ثقافاتهم وعقائدهم، وألا يقتصر على المسلمين، فذلك أدعى لنشر الإسلام
7. أن يكون بسيطًا في هيئته، فلا إسراف في البنيان أو الزخرفة. ثم يوجّه مازاد من مخصّصاته في إنشاء حديقة له وفي تحسين طرقٍ تسهل الوصول إليه.
8. أن تفتح أبوابه قبل صلاة الفجر وتغلق بعد صلاة العشاء، ولا يقتصر نشاطه على سويعات
9. أن تصبح حديقته وقاعته مركزًا ترفيهيًا وتربويًا لأطفال الحيّ في النهار، يتطوع في مراقبتهم المؤهلات من النسوة مقابل مردود بسيط يدفعه ذوي الأطفال المطلوب مراقبهم
10. أن يصبح مركزًا لتعليم القرآن واللغة العربية والآداب والفقه، من قبل الإمام والمؤهلين في مقابل أن يحقق ذلك لهم بعض الصيت فيعينهم بشكل غير مباشر
11. أن يصبح مركزًا فنيًا، يلقي فيه أصحاب الحرف والمواهب ندوات أو محاضرات تساعد الناس في معيشتهم وتعرّف سكان الحيّ بمؤهلاتهم
12. أن يصبح مركزًا إرشاديًا، يقوم فيه فضلاء الحي والمعلمون بتوجيه الآباء والأمهات والأبناء، ويعينوهم على حلّ مشاكلهم
13. أن يصبح مركزًا ثقافيًا متاحًا للجميع وليس لنخبة المثقفين وحسب، لحضور برامج أدبية بسيطة وفعاليات ثقافية وأفلام علمية
14. أن يصبح قاعة لطلاب الثانويات للدراسة مساءً بعيدًا عن ضوضاء الحارات وضيق المنازل
15. أن يصبح مدرسةً مسائية رديفة لتقديم دروس تقوية من قبل المؤهلين والمعلمين المتطوعين مقابل الصيت الذي يحصلون عليه
16. أن يحتوي على خزانة كتب فيكون الواسطة التي يتم عبرها تداول الكتب بين الأهالي
17. أن يجتذب الشبان ورواد المقاهي بشكل خاص ببرامج مهنية ودورات لغوية أو معلوماتية
18. يستفيد جميع المتكلمين ومقدمي الدروس المجانية أنفسهم برفع قدراتهم القيادية وتحسين كفاءتهم في محادثة الجمهور
19. أن يصبح منتدى اقتصاديًا لساكني الحي، يحتوى على قاعدة بيانات للمؤهلات المتاحة، ليطلع عليها أصحاب الحاجات عند الضرورة
20. أن يصبح دارًا للندوة مفتوحةً للجميع لمناقشة حاجات الحيّ وسبل تأمينها، ووسائل تحسين السلامة ورفع مستوى النظافة والمحافظة على البيئة.
21. أن يصبح مكانًا لاستقبال الزوّار ممّن يريدون طرح آراءهم على الجمهور أو محاورتهم
22. أن يصبح صلة للوصل بين فرص العمل وبين طالبيها، وأن ينظم دورات تأهيل للمتقدمين
23. أن يوفر جوّ التعارف بين الفتيان بالفتيات بإذن أهاليهن بهدف الزواج
24. أن يوفر صالة لإقامة الأفراح المقتصرة على المدائح النبوية أو مراسم العزاء
25. أن يلجأ اليه طالبي السكن بالأجرة وأصحاب المساكن المعروض في الحي
26. أن يصبح مكانا للتنسيق بين شبان الحي لإقامة المباريات البدنية والفكرية كالشطرنج
27. أن يكون ناديًا يجتمع فيه كبار السنّ ويتسامرون
28. أن يوفر برامج دعم نسوية كدورات إرشادية وصحية ومهنية وتربوية
29. أن يصبح ملاذًا لإيواء المشرّدين بشكل طارئ ريثما يتم العثور على ملجئٍ لهم
30. وأن يكون مكانًا للتوعية وحملات الطوعية في الحيّ وتعبئة الجمهور
المصدر : ساسة بوست