
بقلم/ حاتم إبراهيم سلامة
———————
بطل المعركة الصامتة
———————
شيء يشعرنا بالحرج حينما نقف أمام بطل، أو بمعنى آخر نكتشف بطولة بطل، لم يعرفه أحد، ولم يأخذ حقه، ولم يطلع على دوره البطولي الفذ مُطلع بالقدر اللائق والمقام المطلوب.!
قدر لهذا البطل الكبير أن يقوم بخطة عميقة الأثر ثاقبة الرأي سحيقة الذكاء، في حماية هوية الأمة عن طريق حماية لغتها والحفاظ عليها أمام موجات التغريب العاتية
وإذا كنا نذكر أدوار كثير من الزعماء كسعد زغلول الذين اتخذوا قرارات إدارية لحماية اللغة العربية، فإن بطلنا اليوم لا يقل دورا عن هؤلاء الكبار والزعماء لأنه صنع مخططا عظيما لحماية اللغة العربية والحفاظ عليها وتعزيز بعثها أمام مخططات التغريب التي قادها الاستعمار وزبانيته من أدعياء التغريب.
كانت بدايتي الأولى لمعرفة هذا الاسم (كامل كيلاني) رائد قصص وأدب الأطفال في مصر، كانت معرفتي به عن طريق المذكرات التي كتبها الأديب الكبير (ثروت أباظة) حينما شرح السبب في توجهه الأدبي، ومن الذي حببه فيه، وذلك يرجع إلى الزيارة التي قام بها الأستاذ الأديب كامل لوالده (إبراهيم الدسوقي أباظة) الذي شغل منصب وكيل مجلس النواب المصري عام 1934م، وتولى عددا من الوزارات في عدد من الحكومات، وكان كامل قد أهداه مجموعته القصصية، ليعطيها لولده الصغير يقرأها ويستأنس بها، وبالفعل قام والد ثروت بإعطائها له، ولم يبال بأثرها في ولده فيما بعد، ولم يدرك أن هذه المجموعة القصصية هي التي ستجعل من ولده، أديبًا يشار إليه بالبنان، لقد أقبل الصبي (ثروت) على هذه القصص، فالتهمها التهاما فتح شهيته للقراءة بعدها في كل صنوف الأدب وكتب المعرفة.
ثم تبين لي بعد ذلك في قراءاتي، معالم هذا المخطط الذي وضع أسسه ومعالمه وخطوات تنفيذه هذا الرجل الألمعي والأديب الخطير! وتبين لي أن زيارة كيلاني لوالد ثروت السياسي الشهير لم تكن إلا متعمدة ومقصودة ولها مراميها وغاياتها.
لقد كان (كامل كيلاني) عاشقًا للعربية، غيورًا عليها، وقد دفعته هذه الغيرة، لما رأى بيوت مصر في الثلاثينات قد هجرتها إلى الفرنسية تحت ضغط التفرنج الوافد، بدأ الرجل يضع خطته في حربه الصامتة، حرب الترويج للعامية من جهة وحرب اللغة الفرنسية من جهة أخرى عن طريق الكتابة في قصص الأطفال، وكان الكيلاني ذكيا فطنا حين طبق هذه المخطط على ولده مصطفى الذي مضى يدرسه ويسايره عاما بعد عام يكتب له القصة ويرى مدى تقبله وفاعليتها في نفسه.
وكان رحمه الله يحمل هذه القصص الملونة المطبوعة على الورق الكوشية اللامع، ويذهب لبيوت الباشوات والأثرياء وعلية القوم، ويقمها لهم ويقول لأحدهم هذه هدية إلى ابنك فلان وفلان، فيفرح بها أطفال البيت تماما كما حدث مع ثروت أباظة التي هام بها أيما هيام، ويظل الأطفال يقرؤون لغتهم، وتستقيم ألسنتهم، ويحبون لغتهم، وتنشأ بينها وبينهم صلة وودا عميق الجذور، تحت إغراء أساليبها المشوقة التي تتناول قصص الجن والعفاريت والسندباد، ولم يكن منهجه رحمه الله منبعثا من دفاعه عن العربية وتثبيت أركانها فقط، وإنما كان يعمل على توعية الطفل وانسجامه مع الواقع بما يخدم شخصيته وذاته، ثم ما لبث أن ظهرت قصصه الإسلامية التي هدفت لترسيخ الروح الإسلامية في نفس الناشئة.
وهكذا كان التخطيط وكان الدفاع وكان الطريق لبعث العربية في نفوس الجيل الذي يريدون طمس هويته حينما يطمسون لغته.!
وإذا كانت الأجيال اليوم لا تعرف من هو كامل كيلاني، ذلك الأديب البطل الذي حمى الهوية ودافع عن لغة الضاد، فإن العربية تعرفة جيدا بما قدم وأعطى ونفذ وأسهم وأنجز.. لقد ألف رحمه الله ألف قصة، ولم يطبع منها خلال حياته أكثر من خمسين ومائة، ومازالت منها بقية.