
في السفر عجائب ..
ومقالب !!
إيهاب فاروق
(2)
خبير بترولي يكتشف بئرًا من الشيكولاتة!!
أقبل علي من بعيد, كان يتتبع خطوات المضيفة العصفورة الصغيرة الجميلة, التي ساقها حظها العَسِر في طريق ذلك الرخ العملاق, لكى يسألها عن مكان جلوسه في الطائرة, وقد ظهر أن مكانه هذا ولحظي أنا الأكثر عُسرة هو المقعد الخالي الذي بقى بجانبي, وبه قد اكتملت الطائرة فعلًا, فبمثل هذا لا تمتليء الطائرات فقط, بل تمتليء وتعافر به كل وسائل المواصلات, وقد قطع قدومه الميمون علي فرحة الشك في بقاء المقعد خاليًا لي بخيبة اليقين بالبقاء داخل حدود مقعدي طوال الرحلة, وبنفس شعور اليابان بعد إلقاء قنبلتى هيروشيما ونجازاكي عليها وهزيمتها في الحرب العالمية الثانية, فلا يوجد أي مقعد آخر خالٍ يمكنني أن أبدل فيه علي سبيل التغيير, إلا مقعد الحمام !!
كان الرجل عملاقاً بالفعل, وأقرب في الشبه من فريد شوقي عندما جسّد دور “عنترة بن شداد” في فيلم “عنتر وعبلة”, وعندما جلس علي مقعده المسكين لم يجاورني في المقعد الذي بجانبي فقط, لكنه قد استولي علي ثلث مقعدي من أعلى قهراً بمنكبه الضخم, ولولا المسند الذي بيني وبينه؛ لكان قد حدفنى حدفًا إلي خارج الطائرة عندما تمطع ذات مرة ورفع ساعديه ذوي العضلات لكي يخلع المعطف الصوف الثقيل, الذي لم يكن يرتدي مثله إلا الرئيس الروسي السابق “بوريس يلسين”, فبدا أمامي مثل المرحوم “مازنجر” عندما كان يجهز على خصومه بالقبضتين المدمرتين, فدمر هو بحركته “التمطعية” هذه ضلوعي أنا, بعد موجات متتابعة من “زغدات” كوعه الأقوى قطعًا من كوع الملاكم “مايك تايسون”, لتستقر زغداته في جنبي الضعيف المتهالك, تلك الزغدات التي لا تهدأ إلا إذا وصل مداها وصداها من أعلى حيث قفصي الصدري إلي أدنى حيث فُم معدتي !!
وبعد كل هذه الزغدات واللكمات ولم يبق له إلا أن يأخذني لمس أكتاف, ليكمل معي كل حركات اللعبات القتالية, لم أحظ منه إلا بجملة اعتذار واحدة
“I am sorry”
من أين أصرفها هذه؟ ومن أي أجزخانة فوق السحاب, لأعالج بها ما تبقى من ضلوعي, بعد أن صرت كما “شكري سرحان” وهو يتلقى اللكمات من “رشدي أباظة” في فيلم “رد قلبي” خوفًا على المجانية, لكن أي مجانية تلك؟, هل أخذت هذا المقعد صدقة من “لوفتهانزا” لأتبرع بنصفه لعماليق أفريقيا, من نوعية هذا الذي استقر أخيرا في جلسته كما “الماموث” علي كل مقعده, وهنأ بما قد استولي عليه من مقعدي, فأسرعت وأنا مضطرٌ اضطرارا لربط الحزام, فلربما لن أجد حزامي وقت إقلاع الطائرة, بعد أن يختفي في أماكن بجواري, من الصعب طبعًا على يدي الضعيفة أن تصل إليها !!
وبعد حوار قصير لم أبدأه أنا بالطبع, عرفني بنفسه وبأنه خبير في حفر آبار البترول من نيجيريا, وذاهب إلي الصين لبعض المهام الخاصة بالعمل للشركة التي يعمل بها, قال كل هذا وأنا أهز في رأسي التي بدأت تدور من كثرة السهر, فكنت أقول له “عظيم عظيم” وأنا أتثاءب وأسد فمي بيدي, على طريقة “عايزين ننام” لصرف الضيوف الثقلاء, ويا ليتني ما تثاءبت, فقد كان هذا إيذانًا له ليغط هو في نوم عميق, لتميل رأسه الكبيرة وتستقر فوق كتفي المسكين, وبدا وكأنه قد غاب عن الوعي فلم يبق لي منه إلا شخيره الذي لا ينقطع .
لم يعد أمامي إلا أن أدعو الله أن يرحمني من هذه الرحلة الطويلة التعسة, ولو بالقفز من هذه الطائرة بـ”باراشوت” مخروم, لأقضي بقية حياتي بين الثعالب في صحراء سيبيريا الباردة, فمهما كانت درجة برودتها فلن تكون أبرد إطلاقًا من ذلك الجار, الذي استيقظ أخيرًا واسترد رأسه بصعوبة من فوق كتفي, واستعاد طلقات شخيره التي خرقت طبلة أذني, ليفعل ما هو أكبر وأخطر على البقية الباقية من حواسي !!
كنا قد تناولنا طعام العشاء, ولهذا قد استيقظ صاحبنا طبعًا, وبعد أن تناولنا الشاي وأحسست ببعض الانتعاش ولو قليلًا, إذ بصاحب جنبي وزاغدي والنائم على كتفي والمشنف مسامعي بسيمفونية شخيره, يمد رجليه للأمام ويشرع في خلع حذاءه, فقلت عادي, هي عادة كثيرًا ما تحدث أثناء السفر, خصوصًا في السفريات الطويلة ولو حتى في القطار, لكنه لم يكتف بخلع حذائه مقاس التسعة وأربعون, وربما أكثر, لكنه قد خلع فردتي شرابه كذلك, وهنا تأكدت بالفعل من أنه خبير بترولي, فعادة ما تطلق آبار البترول غازات طبيعية عند بدء الإنتاج, لكنها لا تُقارن أبداً بتلك الغازات المنبعثة من بين أصابع قدميه, شيء ما انتشر في المكان ولا تحتمله أي أنف ولا يصدقه عقل كما تقول الفنانة “شويكار” .
لم أجد بدًا أمامي من استدعاء المضيفة, فقد صبرت كثيرا ويبدو أنني أقترب من الموت هكذا ومعي باقي الركاب, ولو أراد صاحبنا خطف الطائرة فليس عليه إلا حمل جوربيه إلى قمرة القيادة, بعد أن يكون قد مر على أشلاء ضحاياه من الركاب, ويبدو أننا لن نستمر في هذه الرحلة حتمًا إذا لم تزودنا مضيفات الطائرة بكمامات, أو أن يسمحوا لنا باستعمال أقنعة أجهزة التنفس, فنحن في حالة طوارئ, بل نحن في كارثة طبيعية ربما تفوق بمراحل كارثة انفجار ماسورة مجاري في شبرا البلد !!
أحسنت المضيفة التصرف والحمد لله, وكأنها من مصارعات مصر للطيران لا فاتنات لوفتهانزا, وأبقت الوضع على ما هو عليه, وعلى المتضرر اللجوء للحمام, لكنها عطرت الجو قليلًا ببعض البخاخ المنعش, ثم أتت لصاحبنا بزوج من الجوارب الجديدة هدية من لوفتهانزا, وبعض الأدوية التي لا أدري ما هي, فربما اخترعوا في ألمانيا أقراصًا لإزالة رائحة القدم بدلًا من البودرة والكريم, فانتهزت الفرصة وطلبت أنا منها أقراصًا للدوار, وتوقعت أن تقول لي ..
“قرقش حضرتك نص ليمونة”
لكنها أحضرت لي قرصين مع زجاجة ماء فوار بالنعناع, ثم أتت إلينا بعد ذلك بصينية ممتلئة بقطع الشيكولاتة, من رائحة مطار فرانكفورت , حتى ننسى ذلك الموقف الروائحى برُمته, أو برِمته لا فرق, فقلت يبدو أن مضيفات لوفتهانزا قد تذكرن أخيرًا أنهن يعملن في لوفتهانزا, ولا يطمعن في عقد عمل آخر لدينا, للعمل في أتوبيس سوبرجيت السهم الذهبي !!
ولكن بعد أن ذهبت صينية الشيكولاتة الذهبية اللوفتهانزية, لاحظت أن جاري العزيز الذي اعترف لي بجودة هذه الشيكولاتة, وقد كانت جيدة بالفعل ولا ينبئك عن الشيكولاتة مثل خبير طحنت أسنانه كل الأنواع, ولولا أن المضيفة الملعونة قد سمحت بقطعة شيكولاتة واحدة لكل منا, ثم سحبت الصينية وانصرفت سريعًا كمن لدغها ثعبان, لكنا قد أجهزنا على كل ما كان على الصينية, وبعد أن ازدردنا الشيكولاتة التي ذابت كما الثلج في أفواهنا, لاحظت أن جاري النيجيري لم يعد يجلس علي بعضه, وعيناه قد تعلقتا بشيء ما في المؤخرة, مؤخرة الطائرة طبعًا وإن بعض الظن إثم !!
وفي مؤخرة الطائرة كانت ترقد المأكولات والعصائر, والأهم الشيكولاتة, فتأكدت أن النيجيري من عشاقها مثلي, لكن يبدو أنه قد نقل عشقه هذا من مرحلة العشق الشيكولاتي العذري, ومناجاة الحبيب من بعيد لبعيد, إلي مرحلة التحرش الميكروباصي ونيل المراد, وليكن بعد ذلك ما يكون, وهنا قام العاشق الشيكولاتى الولهان, وهو يتصنع الذهاب إلى الحمام, لكنه لم ينس أن يأخذ معه معطفه الثقيل!!, أخذه لماذا ؟ لا أدري, إلا لو كان يريد القفز من الطائرة ليأتنس بالثعالب وسط الثلوج, عندها سأرقص أنا فرحًا, وحزام مقعدي موجود, لكنه قد عاد مع الأسف وجلس في مكانه ولم يبرحه, والغريب أنه لم يقتطع شيئًا من مقعدي حتى نهاية الرحلة, فقد جلس متكومًا في نفسه كالطفل الذي عمل عملة, وينكفيء على معطفه ويحتضن فيه مثل أي طالبة ثانوي تحتضن في حقيبة كتبها الممتلئة بكل شيء إلا الكتب, حتى وصلنا أخيرًا لمطار “شنجهاي”, وكنت قد نمت قبلها كثيرًا ونسيت جاري ونسيت معه الشيكولاتة, لولا أن الله قد أراد أن يفضحه بين كل الركاب !!
طلبت منا المضيفات أن نعدل من أوضاع المقاعد, لتكون رأسية لا مائلة استعدادًا لهبوط الطائرة, وفي غمرة بحث جاري الخبير عن زر تعديل وضع المقعد, سقط منه معطفه على الأرض, فالتقطته المضيفة لتناوله له, فإذا بسيل من قطع الشيكولاتة يندفع من جيوب المعطف, لتنتشر علي أرضية الطائرة كما البمب في أول أيام العيد, فنسينا الطائرة وهبوطها وربط الأحزمة وكل شيء, وانشغلنا فقط في مساعدته في جمع الشيكولاتة له من على الأرض, وضحك الجميع عداى أنا بالطبع, فقد أمسكت نفسي وكززت على شفتي بعد جهد جهيد, فمازال يجلس بجواري وزغداته كوعه موجهة نحوي كما منصات الصواريخ الباليستية
الحقيقة أن الشيكولاتة كانت تستحق الاحتفاظ ببعض منها, لكن بقطعة أو قطعتين, أو بكبشة لمن فرغت عينه, لكن خبير حفر الآبار البترولية النيجيري كان قد أتي عليها كلها, بعد أن استخدم كل خبرته البترولية في البحث والمسح والاستكشاف, وكأنه يريد أن يعوض ما سرقته الشركات الأوروبية من ثروات أفريقيا, ليحفر بئرًا للشيكولاتة في طائرة ألمانية, وبدون أي خبرة صينية !!
نلتقي في الحلقة القادمة .. على أبواب الصين خلينا أصحاب أحسن!!
إيهاب فاروق