أدب و ثقافةروايات و قصص

اليد الصغيرة

أ. هشام عيد

لم يعشْ ناجي جلال على طبيعتهِ أبدًا، لم يكن يسمح حتى لأقربِ الأصدقاء أن يتخطى المسافةَ الفاصلةَ إلى ذاته، ربما هو نفسه لم يقربها إلا حين انقطعت هذي اليد التي لم تمسّ سوءًا قط.

أثناء الحلاقة كان دائمًا بعيدًا ومتعاليًا وجهمًا، يتعامل كأنه وزير العالم، إذا تكلم، تكلم من بعيدٍ جدًا، كأنه من كوكب شاهق كل من فيه عمالقة وقادرون على تحريك الكون.

في سيره بالسيارة، كان يحرص على مهابته أكثر من الطريق، وضع “سارينة” ضابط يسعده أثناءَها أن تفرَّ من أمامها السيارات، ساعده على ذلك جسمه الفتي وملامحه الصارمة.

حين تزوجَ، لم يُبدِ لزوجته أنه يشعر كما يشعر الآخرون؛ لأنه يؤمن أنه يجب أن يبقى بعينيها صلبًا وبعيدًا ووقورًا.

أما هي فكانت من ذلك النوع من النساء اللاتي يحتملن مثله طالما لا يلحظُ إلا ما يكفل له المهابة، لا تريد أن يلقيها بلا حقوق كزوجه الأولى.. تُغذي شعوره بالسيطرة.. تستقبله بقبلة، تخلع ملابسه، تطوف حوله وتسعى لتلبية طلباته، تُجهّز له الحمام – لا يعني هذا شيئا إلا أن تذهب إلى الحمام ثم تخرج – ولا مانع من أن توفرَ عليه جهد”دعك ضهره”- ولا بد أن يكون الشاي جاهزًا قبل أن يفرغ من طعامه.

والحقيقة أنها إذا زمجرت يتحول كل شيءٍ إلى النقيض.. وحينها “السبع يتكهرب ويبقى فرخه”

إذا تخطيت غلالة المهابة التي يصطنعها لوجدت خلفها أرنبًا.

أعطت جارهم الشاب الذي يستذكر لابنه كل مفاتحه “قم له إن كنت واقفًا، اجرِ عليه، انحنِ، املأ عينيك بالتصاغر، لا تناديه باسمه مجردًا، عامله ك(باشا )”.

روى لي ذات حلاقة إن ابنَه يختبيءُ تحت السرير بمجرد أن يسمعَ صوتَ سيارتِه تركنُ أسفلَ البيتِ، رغم أنهم في الدور السادس، “وعندما أصعد.. أتظنني أناديه؟! لست أقل منه لؤمًا ذلك الشيطان، أتركه يدفع ثمن لؤمه فآكل في بطءٍ وهدوء، أستمتع بسماع أنفاسه المرتعبة بينما يظن هو أن خطته ناجحة، وربما أتركه حتى يروح في نومه… الولد إذا ماترباش من السن ده مش هيتربى أبدًا؟ أنا أبويا كان بيكويني بالنار، أمال إحنا طلعنا رجالة ازاي؟”.

وجاء ذلك اليوم، تجرأ هذا الابن ذو الأعوام السبعة وأخذ الكرة ليلعب مع طفل في الجوار بعد الدرس؛ لم تُوصِهِ الزوجةُ بسرعة العودة، منحَتهُ إِذنًا غيرَ منطوقٍ بالبراح.. لم يكن بالبيت حين عاد أبوه، انتظره ولم يعد، أحس بالإهانة؛ هكذا ستفلت الأمور، قرر أن يؤدبه…

ربط إحدى يديهِ بأحدِ الأسلاك بإحكام في حديد الباب، وأقسم “طلاق تلاته “على زوجته إن هي حاولت فكَّه حتى يستيقظَ من قيلولته. غير أنه قبل القيلولةِ أخذ قرص فياجرا كاملاً.. حتى على فراشه لم يكن حقيقيًا.

صرخ الطفلُ كثيرًا، لكن صراخَه فقد معناه من كثرة تكرارِه في هذا البيت، ضرب الباب برجله، صاح حتى أُرهق، ثم تحول الصراخ الى أنين خافت، غير أنه امتزج بأنين الزوجة التي ما كانت لتترك فحلَها الآن وقد وجدت فيه صلابةً لم تعهدْهَا من قبل، وغلظة لم تذقها من قبل، لا ادعاء فيها ولا هي كعادتها، غلالة رقيقة من عُلوٍ خلفها خُمود، بل صعود مطرد..  تقبلت دفعاته المنهمرة كطرقات المدافع بكل احتفال .. ضاربتها وتقبلت لطماتها.. والرجل، الذي يعشقُ الأنينَ وغنجَ النساء، مستمتعٌ بكلا الأنينين كبرهاني رجولة وسيادة.

عندما بح صوتُ الطفل وانقطع أنينه كانت الرَّيَّانة الطَّروب قد ألقت رأسَهَا على كتفِه العريض وقد استقرت على جانبِ فمِه ابتسامةُ ظفرٍ.. وراحا في نومٍ عميق.. وسكت الطفلُ تمامًا من شدة الإعياء.

*****

لم يجدُ الطبيب حلًّا لإنقاذِ ذراعِ الصبي سوى بترِ الكفِّ المسممةِ بفعل الغرغرينا نتيجةَ إحكامِ الربطِ عليها لأكثرَ من ستِ ساعاتٍ متواصلة..

عندما حانَ موعدُ فكِ الرباط، ليراها الطفلُ لأول مرة، كان الأبُ واقفًا في تخاذل.

رأى الصغير يده بغير كف. لم يفعل  شيئاً إلا أنه نظر لأبيه وقال:

“بابا.. هاتلي ايدي وأنا مش هالعب كوره تاني”

لو حاولت أن تجمعَ كلَ لَومِ الدنيا لما كانت أشد وقعًا من هذه الكلمات الصغيرة البسيطة.

لم يرُّد، لم يجد في لسانِه ردّ.. لم يكن في عقلِه ردّ.. تحول إلى فراغ،

اتسعتْ حدقتا عينيه.. وظلت تتسع وتتسع لكنه لم يكن يرى شيئًا. شعرَ أن كلَ شيء داخله؛ أفكارَه وعقلَه وقلبَه وروحَه، ماضيه وحاضرَه.. كلٌ تحول في لحظة إلى ترابٍ مركوم.. صار شعاعًا.

خرجَ متوجهًا إلى بيته تاركًا زوجته مع الطفل. كان حقيقيًا في سيره لأول مرة، حقيقيًا في قيادته، حقيقيًا حين توجَّه إلى شرفة بيته، وحين ارتقاها، تاركًا كل وقار العمر خلفه، ثم وقف قليلًا.. تذكرَ سؤال الصبي.. فكر في رد.. لم يجد.. لن يمنحَه القادمُ من الأيام أيَّ رد.

ألقى نفسه مقررًا أن تكون رأسه هي أول ما يرتطم بالأرض.

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

نافذ سمان

كاتب وروائي سوري الأصل يقيم في النرويج له خمس أعمال منفردة ( مجموعة قصصية ،ثلاث روايات وديوان نثري ) إضافة لثلاث كتب جماعية. له عديد المساهمات في المنظمات الانسانية والتربوية. كاتب مقالات رأي وصحفي في العديد من الصحف والصفحات العربية والنرويجية. صحفي لدى جريدة فيورنجن النرويجية.درس الصحة النفسية للطفل لدى جامعة هارفرد 2017. مجاز ليسانس في الحقوق 1999 وعمل كرئيس لقسم الجباية في سوريا لحوالي 11 عاماً.
زر الذهاب إلى الأعلى