لقد كان نصيبه من الدنيا هذه الدمعات التي أسبلتها فوق تربته. الأشقياء و البؤساء في الدنيا كثيرين وقد كان هو واحد منهم، سكن المنزل المهدوم الموجود في أطراف المدينة بمفرده وكان فتي في الخامسة والعشرين من عمره، كان تقريباً من طلاب الطب، فعجبتُ لأمره فكان يخرج من منزله في الصباح الباكر ويرجع في وقت أذان العشاء فلا يمكُث في منزله بضع دقائق حتى ينصرف إلى المسجد وما كان يبدأ في الصلاة حتى تنهار دموعه كالسيل المنجرف من عينيه، ما أعجبه في عز أيام شبابه يتعرض لهذا القدر من الأذى النفسي، وكان يعود لمنزله في منتصف الليل بعد أن أنهى جلسة البكاء مع ربه، و يقضي باقي الليل جالساً على كتبه ومجلداته التي قد تشبعت من دموعه المتساقطة عليها وسئمت من منظر عينيه الحمراء أثر البكاء الدائم مثل شلالات الأنهار، أي بؤس يعانيه ذلك الفتى وقد نتج عنه كل ذلك. في إحدى الليالي قاسية البرودة كثيفة الأمطار كان هو على عادته حتى عودته إلى المنزل وبعد بضع دقائق إذا بصوتِ عالٍ خرج عن جدران المنزل التي لم تستطع كتمانها، فما بي أذهب وأرى ما صُنِعَ بالفتى المسكين أم ليس لي به شأن، لقد تغلبت عليَّ العاطفة فذهبتُ لمعرفة ما سبب هذا الصوت المُريب وما نزل بالفتى المسكين فوجته ساقط على أرضٍ تملأها المياه تُغطيه من فوقه الكتب والمجلدات فحملته لمنزلي، وجلبتُ له الطبيب وكان شديد الغيظ فكيف لي أن أجلبه في هذا الوقت المتأخر من الليل وقسوة البرودة و وسيول الأمطار إلى أطراف المدينة التي تكاد تكون مهجورة، وضع الطبيب يده علي جبينه فوجده ملتهباً إلتهاباً شديد كأنه قِطعة جمر فقال إن بِه حُمى، وأعطاه شراب حمى وأجرعته إياه. وها قد هداء المحموم، وقلتُ: ما بكَ يا أخي؟ قال: لا أشكُ شئً. قلتُ: ربما تبقي على كِتمان سر في قلبك الواهن الضعيف عن الناس، فما بالكَ إني أحفظه ولا أُفشي بِسركَ، لكن تحدث لتخفيف الألم المرير الذي تُعاني. فقال: أنا فُلان ابن فلان عندما جئتُ الدنيا كنتُ يتم الأم، وبعد أن أتممتُ السادسة من عمري أصبحتُ فقيد الأب، مهدوم السند، وبعد أن تمالكتُ نفسي ظننتُ أني بثروة أبي سأكون مسنود، ولكن كان مجرد خيال ووهم تبخر، فقد سُدَت جميع ديون أبي بثروته وها قد أصبحتوا يتيماً معدوماً بائس ليس له نصيب من الدنيا سوى الشقاء والألم المرير، فما كان أن كفلني جدي من أبي فكان لي خير سند والأب الثاني وقد عشتُ طفولتي مع أبناء عمومتي، وكانت منهم جويرية صاحبة العيون النرجسية، وعيونها بحور ومتاهات تهتُ من جمالها فيها فإنها تتلألأ كنجوم السماء، فقد كانت النجمة الوحيدة في سماء فؤادي وما أبهي نجمتي اللامعة، وقد عشتُ معها من الطفولة ما أنساني يُتمي، لكن رقية الصبى لم تدم. فقد بلغت مبلغ الشباب وما كان من جدي أن قرر زواجها من ابن عمي وعمها، ابن العز والجاه، لستُ أنا اليتيم المُشرد، فما كان لي أن أعترض فما لي أنا أعرف أن لي في قلبها محل رِفاق الطفولة أم أصدقاء الشبابِ أم الأحباء المغرمون، لم أتمكن من البقاء لي رؤية أميرتي تُتوج ملكة لغيري وأنا موثوق اليدين،فجئتُ إلى هنا دون علم أي من أفراد عائلتي، فما كان لقلبي أن يحمل العبء وحده كنت كل ليلة أذهب لربي أشكُ همي وأُفوض أمري فقد أهلكني الغرام، وغرقتُ في بحر من الأحزان على فراق محبوبة الفؤاد، وأدعوا لأسيري عِندها أن يُعجل الله فك أسره. فما أنساها ليلة وإن نسيتُها يُعاتبني الليل. آه وألف آهةُ يا أخي من ما قاسيتُ، رحم الله قلباً مُتَيم مربوط الوثاق. أتعلم كنتُ أفديها بروحي وكيف لا وهي روح الفؤاد و دولتي في أرض الغرام، كنتُ المُتيم المجنون وها قد أَذاني الله فيها فالله يغير على عباده فما يحق للقلب أن يُشغل إلا برب القلوب، وما غير الله بساكن الفؤاد يجب أن يكون. وها أنا أكتب قصتكَ أيها المُتيم بعد أن ودعتكَ سماء الأرض ورحبت بكَ ظلمت القبر. لم يجمعكم فضاء الدنيا الشاسع وقد مُتم ويوم القيامة تجمعون. عليكَ السلام أيها المُتيم المغروم.