أدب و ثقافة

المناظرةُ الكبرَىَ .. بينهن .. و سيدتهنّ!

بقلم: حسام الدين عوض

قالت متحديةً متلظية: أنا الوحيدةُ بينكُنّ .. التي لاتكاد يده تفارقُ وجنتي! أنا رفيقةُ وجهه ولصيقةُ عينه ، أنا التي تحول بين جسده وبين الرقاد بعد طول سهاد! فإن استبدَّ به النوم لشدة التعب وطول الطلب ، كنتُ أوّل ماتتفتحُ عليه عيناه ، حتى إنه لم يعد يصبرُ على فراقي وإن في دورات المياه! يعجزُ الأحبابُ والأصحابُ عن الوصولِ إلىه ، و الهمس في أذنيه .. إلا إذا ابتغوا إلى ذلك سبيلي ! إن غبتُ عنه يوماً أو بعض يوم تعاطلت أعمالُه ، وتباطلت أشغالُه ، وكان أعجزَ الناس عن أن يحبسَ نفسَه عني وأنفاسه عن نفسي .. وإن حُبِسْتُ أنا عنه حالَ شكواهٌ: “وا رأساه” ..!! تضجّر وتململ ، ولم يهدأ له بالٌ أو يستقر له حالٌ حتى يثوب إليّ .. ويبوء بذنبه بين يديّ ! أذكرُ يوم هويتُ يوماً منه رغماُ عني وعنه ، فتهشم أنفي وكُسِرتْ رُباعيَّتي .. أصابهُ الهلعُ والفزعْ ، وأسرعَ بي إلى أفضل مشفى ، ولم يفارِقني لحظةً حتّى عدتُ إليه بكاملِ لياقتي وصحتي ليحتضنَ براحتيه جسدي المُسَجَّى على أعتابه وبين يديه.

قاطعتْهَا الثانيةُ بعد أن أحسّت أنها قد نَهَشَتْ كبرياءَها قائلةً: قولي خيراً أو اصمتى .. ! ماذا تعرفين أنتِ عنهُ أيتها الضئيلةُ الهزيلةُ .. المتجاوزةُ لكلِّ حدٍ ، واللاهيةُ بيدِ كلِّ أحد ! أنا كاتمةُ أسرارِه ، ومهجعُ أفكاره ، ومستودع أغواره .. أنا مدرستهُ ألفٌ وباءْ ، وصومعتُهُ التي يتبتّلُ فيها صباحَ مساء ، وجوابُ عَيِّـه وشفاء عقله من كل داءٍ وإن بغير دواء!على جبيني يكتُبُ خَواطِرَهُ .. وبينَ مفاوِزِي يقطعُ أسفارَ عقلِه ، ويهتكُ بنفسه أسرار وأستار نفسه ، حينَ تمتلئُ ذاكرتُك أنتي بهمسه ولمسه ، وتتأففين من اسمه ورسمه .. يفزعُ إلىّ ليُفْرِغَ مكنونَ ما أودعه عندك بين أضلاعي ..! إذا أراد رسم لوحةٍ دقيقة أو صوغ قصيدةٍ رقيقة .. غازلني أيّمَا غَزَل ، ودَاعَبَني من غير خجلٍ ولا وجل ، وصَبَرَ وتَصَبَّر وهو يقدِّمُ لنفسِه ونفسِي ، حتى يسمعَ منّي: هيتَ لك!

كانت ثالثتهن الرومية البيضاءُ الجعدة ، قد انتهت لتوها من تصفيف شعرها المجدول .. وبينما هي تجلسُ عند مرآتها الزجاجية اللامعة ، وبعد أن أتمت ضبط ثيابها المتألقة المتأنقة التي تأخذُ بالأبصار و تقتلعُ الأعين وتذهب بالألباب .. التفتتْ إليهما في ثقة .. نظرت لهما نظر المغشيّ عليه من الغرور ، وقالت في استخفاف: ما أسخفكنّ أيتها الشكّاءاتُ البكّاءات ! أوحسبتما أنَّكُمَا بحسبكما إياهُ في حجيرتكما الضئيلة الصغيرة .. المقفرة الفقيرة .. قد جلبتُما له نفعاً .. أو دفعتما عنه أرقاً .. ودفعتما إليه ألقاً ؟! يا ضرائرُ الحسناء: أنا .. مليكتُه المتوَّجة على عرش عليائي .. وفوق سمائكُنّ ضيائي! في ظلال عيني الواسعة .. ينيخُ الحادي راحلتَه ، ويعقلُ الفارسُ فرسَه بعد فراغِه من وعثاءِ السّفر ، وكآبة المنظر .. حين ترهقُهُ الأوقات ، وتنالُ منه الواجبات .. يلقي بكنّ على قارعة الطريق .. ثم لايجدُ خيراً من رحابي ليؤنس وحشتَه ، ويعضّد وحدَتَه ، ويرحمَ غربَتَه! تنطلقُ سهامُ طيفِي لتخترقَ كلَّ ركنٍ من أركانِ نفسِه .. فيصيبُ بعضُها روحَه .. ويسكنُ بعضُها عقلَه .. وينشجُ بعضُها نسيمات قلبه ووشائج قربه! كم ليلةً أطفأ الأنوارَ ، فأسرجَتُ له ضوءَ عيني لينام قرير البال .. وكم سنةً تخبّط في الظُلَم وتعثّر في الظُلَل فأضأتُ لهُ الفجاجَ وعبّدتُ له الطريق ، فيما كنتما أنتما نطفةً مذرةً لم تسكنْ رحماً ولا عرفتْ ضوء حياةٍ أو رأتْ نور أحياء !!

مكثت العجوزُ غيرَ بعيدٍ تستمعُ إلى لغوهن! وترمق ببصرها أبصارَهُنّ! اشرأبت إليها الأعناق ، وتداعت نحوها الأعين ، وشخصت تجاهها الأبصار .. وبادرنَها بقولهنّ: مايجلسُكِ بيننا أيتها المُسِنَّـةُ التي نالَ منها الزمنُ ؟! لستِ سوى عجوزٍ .. قد أبدله الله خيراً منها! تثاقلَ لسانُها وهي تعلمُ أنها لم تعدُ تباريهنّ في الحسن والنضارة والوضاءة ، آثرت أن تلوذ بالصمتِ بعد أن أفلَ نجمُها ، ويَبِـسَ شَبابُها ، وتيبَّسَـت منها أطرَافُها .. أغمضتَ عينَاها ، وحبستْ أنفاسَها ، واسترجعتْ أحداث العمر ، وشريط الذكريات .. وغاصت في بحرٍ لجّيٍ إلى ماوراء وراء .. وإذا بالصور تتجمعُ لتتجمدَ عندَ مشهدٍ واحد لاتدركُه الأبصار ! وعندها قالتْ بصوتٍ متهدجٍ بدأ يعلو شيئاً فشيئاً ، ليقطعَ بجلاله وجماله ومهابته قولَ كلّ خطيب: ربما رقّ جسدي ووهن العظمُ مني ، ربما بَهَتَ جلدي وتهدّل مني لحمي وشحمي ، ربما لم يعد الحبيبُ الأديبُ الأريبُ يعودُني إلا بين الفينة والأخرى .. لكنني الشاهدةُ الوحيدةُ على أولِ ارتعاشةِ قلمٍ قذفَهَا فوقَ صدري .. وأوّلِ حروف هجاءٍ نفثها لتولدَ على يدي .. وأول لعثمةٍ لسانٍ أطلقها لتتبعثر بعد تعثّرٍ في أجزائي وأشلائي .. أولُ قصيدة حبٍ كتبها كانت على عضدي .. وأول دمعة لوعةٍ نزفها لتبلل بسخونتها جسدي .. وأول صرخةٍ فراقٍ أطلقها لتنقش كالوشم على جلدي .. أنتنّ صويحبات عنفوانه وطيشه وجموحه وجنونه .. وأنا مهجعُ طفولتِه ، ومخدعُ عذريته ، ومنبت براءته!

وهنا لم يقدر على حبس لسانه .. وصون صوتِه الذي انطلقَ يجلجلُ حتفَ أنفه: كلا والله .. ما أبدلني اللهُ خيراً منها .. !

اظهر المزيد

حسام الدين عوض

مهندس مصري وكاتب وباحث في الشؤون الإسلامية ، حاصل على بكالريوس الهندسة ، ماجستير إدارة الأعمال ، دبلوم الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى