أدب و ثقافةروايات و قصص

المشهد

سيد عبد النبي محمد

سيد عبد النبى محمد

يكتب

المشهد

لم أكن أنتوى الوحدة – ولكن الذى دفعنى لوحدتى هى اللذة فى البعد والرغبة فى التخفى والكرة والسأم مما يدور حولى .
حاولت بشتى الطرق أن أتعايش وأتعامل ممتزجا مع الأخرين سعيت اليهم بفطريتى الندية أن أكون واحدا منهم – تحملونى فى ضيق وتحملتهم فى رهبة حاولت أن أمزج بين ضيقهم ورهبتى وأن أستمر فى المماطلة ربما يتقبلونى بزوال الداء.
لم تكم فطرتى الآدميه فى وفاق دائم مع طباع الأخرين – أحسست أن الأخرين يلعبون دور البهلوانات فى سيرك الحياة بعضهم يكذب والبعض ينافق والكل يحاول أن يكون طبيعيا مع البعض.
كانت تجلس كالمعتاد فى وحدتها تعمل فى تؤدة وتتحدث مع الآخرين بإحترام – جذبتها الى أو قل هى جذبتنى اليها كالقطبين المتنافرين فى المغناطيس الروحى وكنت بالطبع القطب السالب ، التحمت بها فى صمت تحدثت الى فى تودد وإحترام .
– محمد ليه إنت بعيد عن الناس ؟
– أجبتها فى خجل علشان أنا خايف منهم .
– وخايف منهم ليه ؟
– أجبت مش عارف .
طلبت منى أن أوكد الإجابه على سؤالها .
– ومش عارف ليه ؟
– علشان الناس وحشة .
– طيب كل الناس وحشة .
– أجبتها نعم !
– يعنى مفيش حد حلو – مفيش حد فيهم فيه جانب أو جزء طيب .
– طبعا فيه – بس أنا مش بأعرف التقيهم يعنى أتواصل معهم .
– إنت خايف منهم .
– وهاخاف منهم ليه أنا بجتنبهم .
– يبقى العيب فيك ؟
– ليه ميكونش العيب فيهم .
– علشان إنت بتحمل جانب واحد فقط وبتعتقد إن كل الناس غيرك وأنت داخلك بتحس إنك غير كل الناس- يعنى إنت شمال وهم يمين – كيف يجتمع طرفين كل منهم يسير فى إتجاه مخالف – يعنى عكس بعض – يبقى إنت لازم تكون يمين وهم بالطبيعى يمين .
– يعنى كلامك – لازم ألف يمين وأمشى مع الناس – صح كدة.
كانت تملك كل مقومات الرغبة – طلبت منها أن تكون هى بغيتى.
خاطبتنى – أنا كالناس هل تريد أن تتبعنى أو تريد أن تحتوينى .
تمنيت أن تكون هى رغبتى أو مليكتى الخالدة وأن أكون عبدها الأمين وأن أعيش فى قصرها الشامخ قاصدا الحب والسلام – عبدها الذى يجثوا على ركبتية طالبا منها العفو والغفران .
تخيلتنى أسيرا فى بلاطها العذرى الهادئ أو جليسا بين عشاقها الساكنين المرتوين كئوس اللذة واللقاء .
جثت بركبتيها بين القابعين فى القصر الكبير ومسحت بكفيها أنين السنين وشجون الألم والرغبة .
– أستاذ محمد – فيه حاجة !
أفقت وعدت من رحلتى الساذجة من دنيا الوهم والخيال.
كانت تجلس فى وحدتها كالمعتاد تعمل فى تؤدة وأدب وتتحدث مع الآخرين بإحترام .
– لأ – مفيش
– طيب ليه إنت واقف على الباب ؟
– لا مؤاخذة — سرحت.
– ضحكت — فى إيه يا أستاذ محمد وأنت لسه واقف على الباب
– إتفضل .
دخلت إلى مكتبها – قصدى قصرها – جلست فى المقعد المجاور لها خاطبتنى
– فيه حاجة يا أستاذ محمد!
– أيوة
– أهواك – أعشقك – أحبك – أشتهيك .
– إبتسمت فى إشفاق – كل دة يا مستر محمد .
– قلت لها نعم .
– قالت – تحب تشرب شاي معايا .
أفقت من غيبوبتى على عم محمود ساعى القسم وهو يجذبنى من يدى .
– القهوة – يا أستاذ محمد .
– منزعجا داعكا بظهر يدى على عينى لأمسح عنها بقايا ثبات عميق وقد صحوت متوترا من صوته وشكلة .
– وجبت ليك ساندوتش الجبنة بالبيض اللى إنت عاوزة .
– حطهم على المكتب ومش عاوز أشوف وشك ورينى عرض إكتافك .
– هوة دة جذاتى – ربنا يسامحك ودار عم محمود أمامى قاصدا باب مكتبى وظهرة الكبير يبتعد كتلة بشرية مهترئة يسبقة كرشة المتدلى أمامة هاربا من بنطلونة الضيق .
بملل رفعت ظهرى مريحا إياة على ظهر الكرسى العتيق الذى إحتوانى لمدة سبع سنين هم خلاصة عمرى فى هذا المكان اللعين .
رائحة الورق والملفات القديمة القابضة فى أرفف المكتب البالية الممزوجة برطوبة المكان الندية – القت بظلالها على مكانى الذى أتكوم فيه وأدى الى شعورى بالضيق والتعامل بدون رغبة مع الآخرين .
المكان كئيب بضوئة الهادئ ورطوبته الفجة وضيقة الذى يشعرنى بسجن الحياة .
فتحت الشباك خلفى لأضفى على المكان قبس من أشعة الشمس وهواء الطبيعة – هاجمتنى فلول من أصوات السيارات المزعجة والعربات القديمة وغبارعوادمها الخانقة وأصوات المارة العالية ونفير وأبواق الباعة الجائلين
إعتدلت بمقعدى محتضنا بعنف كوب القهوة المر البارد بكلتا يداى أرتشفة فى سأم .
أنظر حولى فى ضيق أرجع بعيناى الى خارج نافذتى الضيقة وصدرى المكتوم يترنح بين ضلوعى الملتهبة بعبق المكان.
تمنيت أن أنطلق بعيدا فى الفضاء هاربا الى كوكب آخر ليس فيه غيرنا.
مكان آخر لامكان فيه لبشر ولاحياة فيه إلا للطبيعة الخضراء وخرير الماء
أشعر بالرغبة فى الهروب من قفصى المزعج الذى ضاق بى ومللت منه ولا يرغب فى إحتوائى .
أتلفت حولى فى حيرة باحثا عن مكان الوذ اليه – قطعت عينى ورقة الجريدة البالية التى تغلف الساندوتش الباهت المفرول الذى وضعةعم محمود على مكتبى وجحافل النمل تلتهمة بعد أن إكتسى بالغبار .
أشعر وكأنى فى سجن مظلم ضيق ترقبنى فيه أعين حراسى الأشداء وأنا مقيد محاولا الخروج كى أرتوى من الماء العذب المنسدل من شلال بعيد ليمتد كاسرا قيودة عبر الزمان والمكان بين تلالها الخضراء .
كانت أمنيتى أن أهرب أن أكسر الطوق الحديدى الذى يلتف حول رقبتى ومعصمى وأن أهدم السجن وأقتص من السجان .
نعم مللت هذه الحياة أقصد هذا الجحيم الذى أعيش فيه .
تخرجت من جامعتى وتشاء الظروف أن أعمل فى غير تخصصى فأنا مهندس طرق ونظرا لظروفى فقد عملت بهذا المكان الموبوء ولم أستطع التأقلم مع من فيه ومن يعملون معى .
هو عذاب نفسى وعقاب روحى – ليس فيه حياة – مكان كالقبر نزورة يوميا ونمكث فيه كجثث متعفنة هرئة .
لا يدرى بنا أحد ولا ندري بأى أحد – نأتى فى الثامنة صباحا ونغادر مكاننا فى الثالثة ظهرا وما بين دوران عقارب الساعة كانت حياتنا واقفة – مملة – رتيبة .
الكون خارجنا يدور ونحن فى هذا المكان خارج الزمان والمكان – قتلت فيه شبابى ورغبتى وحسى وكرهت فيه نفسى .
أحسست أن الجنيهات القليلة التى ترمى لنا أوائل كل شهر هى ثمن للعيش فى قبور المكان.
ضقت زرعا بكل البشر الأموات المحيطين بى والذين يأتون الينا لقضاء مصالحهم المزعومة .
أردت أن أخرج شاهرا سيفى المكسورأصارع به بقايا الجن الرابض بين رفوف الكان .
خرجت من مكتبى دون وعى منزعجا رافعا صوتى ممسكا بيدى بقايا ورق جريدة متهدل وكوب قهوة ردئ وعنفوان شاب يريد أن يكسر بقايا الزمن الكئيب .
وقف الموظفون مشدوهين كأشباح بالية تكسو وجوههم مزيج من الأم والدهشة يتعجبون من شاب فقد عقلة .
قابلتنى أمل وأمسكت بى تحاول تهدئتى وتدفعنى الى مكتبها – قاومتها وأردت أن أهرب وأخرج – أبت أن تتركنى وأنا فى حالتى هذه بثورتى وجنونى – إحتضنتى بشدة باكية بصوت عال .
ترنحت بين قطبيها كطفل صغير يبغى الدفئ والحنان – إهتززت وحاولت أن أغادر جسدى الهزيل الممد بين زراعيها الى عالم آخر – زادت من إحتوائها لى .
– محمد – علشان خاطري
بكيت وأنسابت دموعى داخلى تطفئ لهيب الألم والرفض.
لم أستطع الوقوف – ترنحت – وحاولت أن أقف على ما بقى منى – نزلت بركبتى على الأرض – نزلت معى – حاولت منعى من إفتراش المكان ومن السقوط .
– محمد – علشان خاطرى
شعرت إنى عبد فى قصرها وهى مليكتى وقد أتت لتحتوينى .
سيد عبد النبى محمد أحمد

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
زر الذهاب إلى الأعلى