العقيدة و الدين

في المسّ واللَّبْسِ والسِّحْرِ والجنِّ والشياطين!

بقلم: حسام الدين عوض

لاتندهشْ إذا استوقفكَ حظُّك العاثرُ وأنت تقلِّبُ قنوات التلفاز في بلدٍ عربي ، فإذْ بإعلانٍ مدفوع الأجر (بعشرات الآلاف من الدولارات) للمعالج القرآني الذي يرقِي المسحورين ، ويفكُّ المربوطين ! فأمثالُ أولئك المتاجرين بدين الله وسنة رسوله ، يجنون مالايجنيه أكثرُ الأطباء الاختصاصيين في حالات الطب النفسي والعصبي ، ممن يزهدُ في عياداتهم المرضى خوفاً من “كلام الناس”! وذلك في أمةٍ تحرصُ شعوبُها على وضع المصاحف في السيارات لحفظها من الحوادث! وعلى تعليق الرُّقَى والتمائم والخرزات الزرقاء بنفس قدر حرصها على تعليق أسباب الفشل أو أعراض المرض على شمَّاعَةِ الآخرين.

وبينما يتعايشُ أبناؤها في تماهٍ وانسجامٍ تامٍ مع الاستبداد السياسي والقمع والفساد الذممي ، إلا أنهم يحرصون غاية الحرص على تغطية شعور ووجوه نسائهم اتقاءاً للفتنة! هذا والحقُّ الذي أَدينُ اللهَ تعالى به وعليه ألقاه: أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بُعِثَ مُعَلِّماً للإنسانية وقدوةً للبشرية ؛ ولم يُبعَثْ طبيباً ولا فيزيائياً ولا جيولوجياً ، كما أنَّ القرآن الكريم ليس كتاباً في الطب أو الفلك أو الرياضيات ؛ بل كتابُ هدايةٍ يُخرِجُ الناسَ من الظلماتِ إلى النور ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد

حينَ يتقدمُ لابنتِكَ عريسٌ مصابٌ بمرض العِنَّـة وهو يعلم ، لكنه يقررُ الزواجَ تحت ضغط المجتمع غير عابئٍ بحال أو مآل الضحيّة ، فما أسهلَ أن يزعمَ -عندَها- أنه صحيحٌ معافىً لكنَّهُ مربوط! وحين تجدُ ابنَكَ مقصراً غاية التقصير في استذكار دروسه المدرسية رغم أنه ذَكيٌ ولَمَّاحٌ كما قد تتصور ، فما أيسر أن تُعَزِّي نفسَكَ -حينها- بأنه محسودٌ نالته أعينُ الجيران أو الأقارب ممن استكثروا عليه وعليك النعمة! وحينَ تسمعُ عن فتاةٍ فاتَهَا قطَارُ الزواج ، أو بامرأةٍ ابتُليَت بالعقم أو بإشكالاتٍ في الحمل ، وبدل أن نضع الحلول بتحليل أسباب ذلك الخلل المجتمعي وننصحَ بالتماسِ أسبابِ العلاجِ لدى الأطباء و الحكماء ، يقومُ بعضُنا بتوجيههن فوراً إلى الشيخ فلان!! صاحب الحقَّ الحصري في فكِّ العمل الذي على رجلِ جملٍ!! في قعرِ بئرٍ بصحراءَ لايصلُ إليها إنسٌ ولا جان! وحين تجدُ أحدَ أصدقائك وقد ابتعد عن المسجد لفترةٍ أصابتهُ أو شُبهَةٍ ضربَتهُ أو شَهْوَةٍ نالت منه ، فما أسخفَ أن يخبرَكَ بعضُهم أن جنِّياً نصرانياً أو يهودياً قد تلبَّسَه !! وأنهم قد جاءوه بأحد المعالجين ليضرب ذلك الجِنِّيَّ ضرباً مُبَرِّحاً وهو يتلو عليه آيات العذابِ حتى يفارقَ جَسَدَهُ فيعود لاحقاً لمسجدِه!

كل هذا لأنَّ تصديق الخرافة ، وتداول الأساطير ، والنزوع إلى تفسير المحسوسات من خلال القوى الروحية الخفية الخارقة ، من مظاهر التخلف والردة الحضارية التي لازالت أمتُنَا ترزَحُ تحت وطأتها منذ نحو ثلاثة قرون!

ويؤسفني إذن أن أقول لك ياعزيزي ؛ وفي صراحةٍ قد لاتخلو من صرامة:

إذا كنتَ تقودُ سيارَتَك بسرعةٍ عالية في منحنىً شديد الخطورة ، فسوفَ تنقلبُ بك سيارتُك هذه ولو كان فيها عشرةُ مصاحف! ولو كنتَ تستمعُ حينها لـ سورة البقرة ! ولو حدثَ واضطربَ القاربُ المطاطيُّ الذي يحملُك وصديقَكَ في عَرَضِ البحر ، فسوف ينجو منكما من يجيدُ السباحَة ، وإن كان لايحرِصُ على صلاة الفجر! وإذا حدثً وضرب حيَّكَ السكنيَ زلزالٌ عنيف ، فسوفَ تتضررُ المباني التي لم يراعِ بنّاؤوها ضميرَهُم ولم يُرَاقِبُوا فيها ربهم ، ولو كان يسكُنُها أتقى وأنقى جيرانك!

أتدري لماذا ؟؟

لأن هذه وأمثالها هي قوانين الفيزياء (علم الطبيعة) التي عليها قامَ الكونُ كُلُّه ، قال تعالى: (إنّا كلَّ شئٍ خلقناه بقدر) (سورة القمر : الآية 49) وأما سوى ذلك ، فخوارقُ العادات ، وطرائقُ المعجزات ، ولطائفُ الكرامات ، وهي استثناءُ القاعدة التي تجري على جميع البشر ، قال تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (سورة الإسراء : الآية 59)

قال المعارض: فهل تنكِرٌ إذن قولَ الله تعالى وهو يصف المرابين بقوله: (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)؟ ثمَّ قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق)

فأقول -وبالله التوفيق-:

أولاً: سياقُ الآية الكريمة في سورة البقرة يتحدثُ عن الذين يأكلون الربا ، وأما اقتطاعُ هذا الجزء منها فهو سوقٌ للدليل في غير مسارِه ، فالآيةُ لا تتكلمُ في الجنّ كما ظَنَّهُ بعضُ من لم يتحرَ العلم ، وكأني بالآية تقول : (الذين يأكلون الربا بهم مَسٌ من الجنون الشيطاني لأنهم يقولون: إن البيعَ والربا شئٌ واحد ، واللهُ تعالى قد أحلّ البيعَ وحرَّم الربا) فليس لشئٍ من هذا صلةٌ بما توهموه من قريبٍ أو بعيد! ولو سلَّمنا جدلاً أنَّ المس الشيطاني مرادٌ هاهنا ، فالمسُّ معلومٌ في اللغة وهو يعني التلامس الخارجي ، فمن فسَّره على أنه ولوج الشيطان أو الجانّ إلى جسد الإنسان ، فقد تكلّف وتعسّف وأفسد اللغة.

هذا ولكي نفسِّر القرآن الكريم فعلينا أولاً أن نرجع إلى القرآن نفسه ، لأنَّ القرآن يفسِّرُ مبيَّنُهُ مُجْمَلَه ، ويقضي مُحكَمُهُ على مُتَشَابِهِه ، قال تعالى على لسان نبيه أيوب -عليه السلام-: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (سورة ص : آية 41) أي: وسوس إليّ ، فليس للشيطان على الإنسان سلطانٌ أكبر من الوسوسة ، قال تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم) (سورة إبراهيم : الآية 22)

ثانياً: الحديث الشريف .. فيه عبارةٌ مجازية تشي بأن الشيطان يلازم الإنسان -كل إنسان- وإلا كان ذلك أدَلَّ على نقيضِ حجتكم ، فلو كان الشيطانُ يجري في دم ابن آدم على الحقيقة لا المجاز ، لكان ذلك في كلِّ آدمي ولم يكن محصوراً على من تسمونه “ملبوساً” وتُهرَعُونَ به نحو مشايخ السوء! ومن مثلِهِ قولُ الله تعالى: “وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ” (سورة ق : الآية 16) وفيها كنايةٌ عن إحاطةِ الله تعالى بعلم ماتُكِنُّهُ نفوسُ الناس قبل مايعلنونه وليس القرب المكانيّ ، هذا والمجازُ في القرآن والسنة لاينكره إلا جاهل!

على كل حال .. فسوف أتعرَّضُ -مستعيناً بالله- بشئٍ من التفصيل والإيضاح لهذه الألفاظ التي اضطربت فيها أفهام كثيرين ، وأرجو أن يتسِعَ صدرُ القارئ الكريم لإمهالي حتى الحلقة القادمة ، حتى لايطول الكلامُ في هذا المقال فينسي بعضه بعضاً

فإلى لقاء ، والله المستعان وعليه التكلان

اظهر المزيد

حسام الدين عوض

مهندس مصري وكاتب وباحث في الشؤون الإسلامية ، حاصل على بكالريوس الهندسة ، ماجستير إدارة الأعمال ، دبلوم الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى