
الكتابة بين الماسوشية والمهنية
“أنا اتعذب بينما انتم تمدحون كتاباتي”
مقولة نطق بها الكاتب التشيكي “فرانس كافكا” مخاطباً جمهوره وشارحاً حال كل الكُتّاب، كيف للكاتب أن يعاني في الحياة من مرض، جهل، فقر ويصيغ ما يعيش بكل قسوة لينال بعدها التصفيق الحار والثناء على نثر أنامله رغم أنه أحوج البشر للتعاطف والمواساة؟
ليس هناك ما يفجع الكاتب ويجعله يخاف على قلمه من الكسر أو افكاره من الاضمحلال ومِن ثمّ الموت إلا الرتابة، الفتور، الملل، إن صخب الحياة المليئ بالألم يعبث بأروقة عقله ليطلق العنان له في تمزيق افكاره واحاسيسه فيغيب الكاتب عن آدميته ويمارس الماسوشية بكل فنونها.
أبدع بذلك المنطلق الكاتب الروسي “فيودور دستويفسكي” الذي أخرج من رحم المعاناة نصوصاً عملاقة تجوب العالم في رحلة دائمة متكررة لا تعثر فيها يحكى فيها تجارب قاسية عاشها في غياهب السجون، وكان للكاتبة الانجليزية “ايزابيلا ليندي” نصيب في تلك الكتابات الماسوشية عن ابنتها باولا، زرعتها بين أناملها الحزينة وغرستها لنا في أوراقاً لتثبت للعالم أن الوجع والحزن قادران على الفتك بأي شخص لولا ممارسته الكتابة.
إن هؤلاء الماسوشيين مختلفين عن كُتّاب وأدباء أمتهنوا الكتابة ليس للتنفيس عن ما يعتريه صدورهم من صرخات مميتة وما يسيطر على رؤوسهم من افكار مدمرة، لكن من أجل القارئ فقط، ويختلف الماسوشيون عن المهنيين بعدم اكتراثهم للقارئ فهم يكتبون لأنفسهم وليعجب هذا من يعجب ومن لا يعجبه فليتركه وشأنه.
المهنيون وإن كان أكثرهم كُتاب وصحفيون فإبداعهم يقف عند سقف القارئ فهم يكتبون لإمتاعه أو لرسالة مؤمن بها ومعتنقها فتغل تلك المهنية يده عن فضاء الابداع الشاسع اللامحدود، فكان منهم الأديب المصري “يوسف السباعي ” والصحفي “يوسف ادريس” اللذان أضافا كثيراً للأدب بعيداً عن الماسوشية وكتا روايات وقصص قصيرة تربعت على عرش الأدب.
إن هؤلاء الذين تأسرهم الفكرة فيجلسون يتحسسون في ظلامها بنائهم القصصي والحوار ورسم الشخصيات وعقدة وخاتمة تليق بكل ما كُتب ….الخ من قواعد القصص والرواية يشغلهم في المقام الاول اساليبهم، كيف تكون لغتهم؟ يسيرة يستسيغها القارئ أم عميقة قوية تنشله من وحل الجهل والركاكة؟ ماذا عن البطل الشرير أيقتل الطيب ونؤلم القارئ أم يموت الشرير ونختتم النص بنهاية سعيدة؟… وهكذا من كل تلك الافكار المحدودة.
الاحساس الذي يمثله الكاتب بعذاباته، والفكرة التي تلهم الادباء بالمهنية ليسا سوا حالات يعيشها الكاتب ليقطف من رحيق الحياة، من عبثية الواقع، من سخافات المجتمع ومجونه شيئاً يستحق أن يُقرأ، شيئاً يحمل الكتابة للأعلى، إن الآلام واحدة، الصراعات نفسها، الحرب، الحب، الخيانة والموت.. لا اختلاف هنا.
قد يغزل الكاتب أو الأديب نصوصه من هذا وتلك، تارة يكتب بغزير الوجع والخزن والقسوة التي عاناها وتارة أخرى يكتب للقارئ مايريده وما يريد ايصاله للقارئ من رسالة أو فكر، فعلها الأديب المصري “طه حسين” حين كتب رواية (الايام) عن سيرته الذاتية المليئة بالعذاب والحرمان ورحلة الصعود إلى القمة بالمثابرة والصبر، وندد أيضاً بضرورة الكتابة للفكرة والرسالة في رائعته (دعاء الكروان) عن الشرف واهدار الكرامة بعيداً عن تجاربه الشخصية مع تلك الحياة.
اخيراً لن نزيد على الكيل قمحة فيكفي الكيل بما يحوي ويكفى القلم بما فاض وإن زدنا فلن تنل أحرفنا إلا هدر قيمتها، فكن صاحب فكر وأسلوب قائم بذاته في سبيل الأدب وادع قلمك لتقبل الماسوشية أو المهنية لينساب مع فلسفتك في ولادة ابداعية سلسة وناعمة.
إيمان الخطيب