
قرأتُ منذ مدّة لأحد الأساتذة المحترمين اعتقاده بأننا قد ظلمنا موقع التواصل الاجتماعي ( الفيسبوك ) وأننا –كعرب- قد حمّلناه ما لم يُصمّم لأجله.
لتوضيح وجهة نظره، قال الأستاذ الذي يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية عن جدارة، أن الفيسبوك كان أمراً احتاجه الغرب للتسلية ولقضاء بعض الوقت الممتع وللتواصل ما أمكن مع المحيط واكتساب الصداقات والعلاقات الجديدة.
حتى هنا، أنا أفهم ذلك وأتفهّمه، ولكن يا ترى، هل ظلمنا نحن الفيسبوك حقاً؟
الحقيقة أنني أعتقد أننا-كعرب طبعاً- أعدنا اكتشاف الفيسبوك، وأعطيناه مزايا جديدة، وألبسناه حُلّة ما كان يحلم بها مُصمّموه.
وكما أن الصينيين اعتقدوا أنّ الشاي يُطهّر الماء بعد غليها، فإن العرب اعتمدوه وجعلوه، مع الأتراك، الشراب اليومي الأكثر شهرةواستخداماً على الاطلاق في مناطقهم.
وكما تم تحويل الهيرويين من أداة تخدير في العمليات الجراحية، إلى مُخدّر متوحش يُسبب الإدمان ومن ثم القتل.
وكما تم تحويل الدين من رابطة مُقدّسة تربط بين العبد وربه إلى أداة للتكسّب وللفرقة والقتل.
أرانا قد ألبسنا موقع التواصل الاجتماعي هذا حلية جديدة تناسبنا من منطلق الحاجة أم الاختراع.
دعونا نعترف بداية أن الفيسبوك قد حطّم الكثير من العلاقات والعادات والتقاليد والأعراف القديمة، وأنّه صدّر للواجهة أفواجاً من الأغبياء والأدعياء ، وأنّه انضم إلى الأسباب الكثيرة التي تُسبّب فرقتنا وعداوتنا ومشاحناتنا التي لا تنتهي.
مما ميّز الفيسبوك العربي أنه كان اشتراكياَ أكثر من الاشتراكية ذاتها، فتساوت عنده الرؤوس، وأصبح للكلّ رأي وشلّة تناصره الرأي.
أصبح للكلّ معجبيه ومتابعيه، وأصبح بإمكان الجميع أن يحملوا الألقاب التي يحبّون دون أن يُجهدوا أنفسهم بمعرفة مدلول أو ماهية تلك الألقاب التي انتحلوها.
في الفيسبوك أصبح من المعتاد أن يقتحم حياتك الخاصة أيّ كان، بدون إذن أو تفويض أو استئذان.
أصبح من المعتاد أن يطرق بابك اتصال مرئيّ من أحد قد قبلت صداقته للتو، دون أن تتأكد بعد إن كان رجلا أو امرأة أوحتى لا هذا ولا تلك.
في الفيسبوك، جملة ( أنا تعبانة) الأكثر مشاهدة وتفاعلاً من أيّ بيان رقم واحد لأيّ إنقلاب أو ثورة ولأيّ شيء مُقتبس من أمّهات الكتب.
ولكن، هل أصبح الفيسبوك منصّة الأغبياء؟
هل بات مُتكسّباً لمن لا كسب له؟ وشأناً لمن لا شأن له؟
نُخطئ إن أنكرنا ذلك، ونرانا نُجانب الحقيقة إن نحن أقررنا وسلمنا بذلك أيضاً.
الحقيقة وبتجرّد، أننا كنا مُحاطين بأنفسنا، قبل الفيسبوك، مُقيّدين بمكاننا ومعارفنا، محجوب عنا الكثير الكثير من خبايا النفوس وافتكاسات العقول.
كنا، على اختلاف ميولنا ومراكزنا، قابعين في كهف، جُلّ مايحوي يشبهنا.
فنحن بقصد أو من دون قصد، قد شذّبنا الكثير من علاقاتنا وتحركاتنا ونشاطاتنا وتطلعاتنا حتى، لتشابهنا وتشابه ما نهوى ونرتاح إليه، متجاهلين تماما كل ماسوى ذلك وخالفه، حتى أن بعضنا كانت تصل به ( الأنا ) ليُنكر وجود من يُخالفه الرأي أو التوجه أو الطموح أو حتى المنشأ.
هنا، جاء الفيسبوك ليقول لناأننا لسنا وحدنا هنا على هذا الكوكب، أننا نتشاركه مع العديد من العباقرة والمفكرين والأغبياء والمتدينين وشاحذي اللايك ومغتصبي الكلمة وطالبي الشهرة والمرضى النفسيين والمصابين بأمراض العظمة والظهور.
وكما اكتشفنا نحن الفيسبوك فإنه اكتشفنا وكشفنا أيضاً، وأبان هشاشتنا وادعائنا وافتقارنا لملكة التواصل مع الغير.
لم يكن الفيسبوك عبئاً علينا، فقد كنا نحن عبئاً عليه، وبات لمعظمنا عدّة حسابات وهمية، وبات لكلّ منّا شلّته التي تصفّق له ويُصفّق لها، أصدقاء خاصّة يتملقونه ويتملقهم، ونظرة اُحاديّة أراد نقلها للفيسبوك وفرضها على الجميع إما بقوّة ناعمة ( التكرار ) أو بأخرى عنيفة فظة ( السباب والشتائم والتكفير والتخوين ).
في بلادنا، حال قبولك صداقة أحدهم ( الافتراضية ) فإنه للتو يضمّك لجماعته ( التي سبق وأن كوّن لهم مجموعة تفاعلية ليُصفقوا لبعض ) وبعدها يُرسل لك طالباً أن تُعجب بصفحته التي أنشأها سابقاً وغالباً تحمل اسمه ويسبقه لقب أعطاه لنفسه، كل هذا ، إذا لم يُبادرك بإتصال مرئي دون مراعاة لوقت أو اتكيت.
هنا، لا نُحاول أن نُبرئ للفيسبوك من مخاطره ومشاكله ومآسيه، بل ننسب إليه الوحشة التي أصابتنا من بعد استخدامه، والوحدة التي كنا نفرّ منها إليه وإذ بها تتملكنا معه.
ننسب له كشف خوائنا وخوفنا وتقطّع السُبل بنا وقلة حيلتنا.
ننسب له تهديم جدران الخجل التي كانت تمنعنا من ارتكاب عديد الأخطاء، وإذ بها مع الفيسبوك تصبح أسهل، وأكثر منالاً وربما أمتع.
ننسب له إقتراح مميزات جيدية نتمنى وجودها واقعياً، كخاصية الحظر التي كان من الممكن أن تجعل من نكره يختفي من أمامنا بضغطة زر، أو حتى لو كنا نستطع أن نُغلق شخصيتنا مؤقتاً كما نفعل مع صفحاتنا الشخصية، لنستمتع ببعض العزلة أو نراجع حساباتنا، ما لنا وما علينا.
لم يكن الفيسبوك مجرد تطبيق على الهاتف، بل كان محررنا ولطالما فتح لنا آفاقاً ما كنا نحلم بها.
الفيسبوك أقنعنا أخيراً أن سدنة هياكل جهلنا وقهرنا يمكن قهرهم فعلا وتحييدهم.
لقد أهدى لنا الفيسبوك فرصة التخطيط والتنظيم لأعظم حدث في تاريخ العرب الحديث( الثورة المصرية المجيدة في 25 يناير ).
الفيسبوك أعطى البعض منا عملاً، وأعطى البعض أملاً.
أعطى البعض صحبة وأعطى البعض فرصة.
فهل نُثقل على الفيسبوك يا ترى أم هو من يُثقل علينا؟
أعتقد أن الأمر أبسط من ذلك، وأنه ليس علينا أن نرهق أنفسنا بالتقييم، فالأمر نسبي ومتغير بشكل سريع وآني.
ونبقى كشعوب عربية نتطلع إلى المزيد من التجارب والخبرات والحرية التي حُرمنا منها لمئات السنين.