أدب و ثقافةروايات و قصص

الغريب

سيد عبد النبي محمد

الغريـــــــــــــــــــــــــــــــب
كعادتي دائما وأنا صغير أسكن الحارة الضيقه الملتويه كثعبان يسير في طرقات القاهرة المزدحمه توقظني أمي صباحا علي صوت الشيخ محمد رفعت بقرآن الصباح الندي من الراديو البني العتيق المدفون في صدر الحائط البالي أتقلب في مكاني علي ظهر الكنبة الضيقه الموجودة بالصاله وضلوعي مكسرة من مساندها العالية الصلبة والتي أتخذها كوساده تحت رأسي أجلس متململا أحاول أن الملم شتات نفسي أمسح بظهر يدي على عيناي محاولا فتحهما بلطف أتثائب إستعدادا للوقوف أنهض بتثاقل وصوت أم كلثوم ينطلق من المذياع بدلال ( ياصباح الخير يالي معانا ) أضع قدماي برفق وتودد في الشبشب القديم البالي أتحرك ببطئ الي الحمام الصغير وصوت خرير الماء الدائم من الصنبور الصغير الخَرِّب المُعَلَّق بمنتصف الحوض الأبيض وبحبات الماء التي تتدحرج علي وجنتي وكوعي وساعدي أستقبل القبله وأنوي الصلاة – صوت أمي من الداخل وهي تنادي علي باقي إخوتي لكي يستيقظوا لتناول الفطور المكون من طبق الفول الساخن بالليمون وزيت التموين والشطه والعيش الطازج الطري الذي تشتريه أمي من الفرن القابع علي ناصية الحارة أخرج مباشرة الي البلكونه متطلعا الي المارة تحتي تقابلني لسعة البرد النديه التي تتسرب الي عواطفي الداخليه لتيقظ ما بداخلي من أمل – أول ما يطالعنى عم أيوب الذي يبيع الفول أمام فرن المعلم مرغنى علي ناصية الحاره وعم أيوب مسيحي مسلم لا تشعر معه إلا بالراحه والهدوء لهجته الصعيديه تنم عن طيبه سازجه له ولد صغير يساعده في جر عربتة التى تحمل فوقها قدرتين كبيرتين من الفول وأخري صغيرة من البليله والكل تم تسويتة بالمستوقد يعرف كل فرد بالحارة وله عباره مكرره بسيطه ( أزيك ياولد )بكسر اللام – (خير عليكي صباحين ياأم محمد ) ( صباحك فل ياعم سعيد) ( ألف سلامه عليك ياعم محمود ) – وعم محمود رجل كبير السن كان يعمل في أحد مصانع النسيج وتم إحالته علي المعاش وهو الأن يستكمل حياته في البلكونه المقابله – يستيقظ فجرا – ويجبر الحارة كلها علي الإستيقاظ بصوت المذياع العالي وهو يبث قرآن الفجر من جامع سيدنا الحسين- ينادى علي عم أيوب – ( ياحاج أيوب ) كل الناس عنده حجاج – يهرول اليه رجب آخذا الطبق من السبَّت الذي يتدلي من البلكونه الي عم أيوب – ورجب شاب صغير السن يعمل في فرن المعلم مرغنى – لا يُعَرفُ له أبا ولا أما – وجد فجأة في الفرن – يبات ليله تحت الدكة المقابله للبوابه ورجب لا يُعَرف له بلدا – ولاهويه وكل ما يعِرفه هو عن نفسه أنه رجب فقط – والمعلم مرغني يعتبر الأب الروحي لرجب – يحبه كثيرا – دائما ما يمد يده الغليظه ليضرب رجب علي قفاه الصغير فيرتمى بعيدا باكيا يمسح دموعه لاعنا الزمن الذي القاه في مكان لا تعرف الرحمه له باباً وحيدا بلا أبوين – الأطفال كانوا يلاحقونه في كل مكان يخطفن ذيل جلبابه الرَّث ليفَضّحن أمره وهو يقف باكيا لاصقا رجلاه ببعضهما واضعا كفاه على مقدمته ليحفظ عورته – لم يكن غبيا ولا مجنونا ولكنه كان يائسا وحيدا.
أتناول طبق الفول المدهوك بالملح والشطه وزيت التموين الردئ أنا وأخي إبراهيم وحسن – الملم أغراضى وأنساق علي درجات السلم الباهت المأكول بعوامل الزمن للبيت العتيق الذي أعيش فيه – ثلاثه وعشرون درجه سلم تفصلني عن الوصول الي باب البيت – دائما ما تتكعبل قدماي علي الدرجه المكسوره الخامسه من باب الشقه.
أخرج من بيتي لتلسعني نسمات الهواء البارد الهاجمه علي من الناحيه الأخري – يقابلني عم محمود رزق القابع في البلكونه المقابله بملابسه الداخليه وهو يحتسى كوب الحلبه وهي شرابه المفضل ويتندر بمغازله النسوه بطريقته الفجه أثناء سيرهن أمامه في الحارة الضيقه – كان يناديني دائما بالحاج سيد رغم الفرق الكبير فى السن بينه وبينى والحق فالرجل يحترمني جدا ودائما ما أقف أمامه في البلكونة التى كانت شباكا بالدور الأول نتجازب الأحاديث – يعاملنى كصديق له في مثل سنه وكنت استريح في الحديث معه لأنه متحدث لبق له قدره فائقه في سرد الأحداث وجذب إنتباه كل من يتحادث معه – كان لقاؤنا كل يوم صباحا قبل ذهابي الى العمل وأعاود الكره بعد عودتي لأسرد عليه تفاصيل الأحداث ليوم يتكرر لا يتغير فيه شئ ولا يقطع حديثنا إلا نداء أمي لتناول طعام الغذاء – تعودت عليه وكأنه أصبح أحد أهم أعمالي اليوميه لدرجة أنه إذا لم أجده بالبلكونه أشعر وكأن شيئا كبيرا حدث لي أو فُقِد منى وأحس بعدم التوازن طيلة يومي – كان عم محمود يحدثنى عن الموت ويقول لي أن الموت جبان أرد عليه كيف – يقول لأنه يأتى مباغتا دون مواجهه – أقول له وكيف يواجه الإنسان موته يقول لى – لو عرف الطريقه التى سوف يأتي بها الموت اليه وكنت أقول له وما الفرق فى إنك تعرف أو لا تعرف طريقة موتك – يرد على قائلا – عندها سوف أجد الطريقة المثلي لمواجهته لأني لا أخاف الموت أو أهابه – كنت أقول له ليه ياعم محمود كان يضحك ويقول لأننى أصلي وأعرف الله ومتوقع أن أجدني عنده في أي وقت وبدون أي مشقه كانت أحاسيسه الهادئه الصادقه تعطيه قوه وصلابه – كان عم محمود مهموما بأولاده الصغار الذى ماتت زوجته عنه منذ عامين حيث بعَد عنه أكبر أولاده بالسفر الى دول الخليج إحداهما بالزواج من عربي والآخر للعمل بنفس الدوله.
كنت دائما أقفز فى الحارة الضيقه المضاءة ليلاً وجميع ساكنيها أمام منازلهم وعلي الرصيف متآلفون – كان أصدقائى يتجمعون علي الناصية للتحادث والسهر أو للعب الكوره أمام الفرن المغلق ورجب يفترش أحد أجولة الدقيق الفارغه مددا عليه ينظر الينا بإبتسامة هادئه نحسده عليها ليس إلا أنه طليق هادئ قنوع خنوع يرتمي بجسدة في أي مكان حيث لا يوجد محيط أو صديق أو معين لا يملك من دنياه سوي طبق صاج فارغ لا يغسله أبدا وإذاغسله فيكون ذلك بحفنه من الرمل وصفحة من جريدة قديمه يمد يدة الى عم أيوب بائع الفول – يعطف عليه بكبشتين من الفول الصافي وحفنه من الملح وكأن ذلك حق مكتسب له لدرجة ان أيوب كان ينادي عليه إذا تأخر مرددا ( واد يارجب تعالي خد الجراية) مرددا ( الواد ده كله بركه)- يجلس رجب تحت عربه العيش الواقفه أمام باب الفرن في الجهه المقابله له ومعه رغيفين من العيش الرجوع وبصلة يدشها بيده وكوز شاي إسود من الفرن – كان يأكل بسعاده ويمد فمه ليشرب من الحنفية التى خلفه بالحارة – يقف ضاربا صدره بيديه بعد أن يأكل – مسرعا الى المعلم مرغنى ذو الكرش الكبير والجالس علي كرسيه قائلا له ( فين الإصطباحة ياحمار) بعد أن يصفعه علي قفاه فيهرول رجب إلي قهوة حسن مرسي حاملا الشاي والشيشة
كان رجب يعتبر إبنا لكل الحاره يدخل أي بيت وفي أي وقت وبدون أى حزر يمد يده يفتح باب أي شقه يجلس مع أهلها يأكل ويشرب وينزل وبدون أي موانع – آمناً كان علي كل من بالبيت أي بيت حتى ولو كانو نسوة أو أطفال – كان قنوعا قليل الكلام خفيف الظل محبوب من الجميع يدخل إلي أي مكان يأكل مع الناس دون إستئذان يخرج كطير هادئ وديع رغم حالته الصعبه دائم الإبتسام – يجلس بيننا كشاب ينظر الينا بحنان يضحك بشدة عندما كنا نضحك – لكنه لايتكلم وعندما يصمت الجميع تجده سارح في ملكوت آخر كانه انتقل بحسه الي دنياه التى لايراها ولا يشاركه فيها إنسان – ينام هادئا في المساء وحيدا أمام باب الفرن المغلق ليلا علي جوال دقيق فارغ – يصحو هادئا في الصباح – كل ما يملكه من الدنيا جلبابه البالي وذكرياته الباهته التي لا يعلم عنها أي شئ – بالرغم من كونه شابا صغيرا ناحلا أكل منه الزمن كل ماتبقي له من أمل كان أول المتسابقين في فعل الخير أول المهنئين في أي فرح أو مناسبه سعيده وأول المشاركين في مساعدة المنكوبين يجري مع الناس حاملا النعش في حالة وفاة أي فرد من الحارة أكثر الباكين علي المتوفي – يكنس الحارة وينظفها – ويقف بالصف الأول آخذا واجب العذاء – يجلس في الحارة بين النسوة وهن يتبادلن أطراف الأحاديث دائما ما كان شعورهن إنه إبنهن – ذات يوم رايته نائما علي الرصيف يغط في نوم عميق ورأسه مسند علي فخذ عجوز مسنه من أهل الحارة وهي تغطية بسجادة قديمه لأنه يحس بالبرد وعنده صداع – ذهبت اليه أيقظته ( فيه حاجه يارجب ) فتح عينيه بصعوبه ( لا ياعم سيد – شويه صداع والحاجه أم فتحي إديتني كوبايه شاي وبرشامه) كان الطقس باردا جدا وجسمه ينتفض بشدة أسندته ودخلت به بيتى قابلته أمي بلهفة أوصلته الي كنبتي نام عليها غطيته بالبطانيه التى أملكها حتي يشعر بالدفئ نظر الي بعينين دامعتين وصوت ضعيف حزين (عم سيد لو مت إدفنى مع أبوك في قليوب ) ربَّتُ علي كتفه ومسحت علي شعرة (عم عبد النبي الله يرحمه كان بيحبني قوي) ذكَّرني بالوالد أثناء رجوعه من العمل وهو يحمل خُرَجا علي كتفه به من خيرات الله حيث يجرى اليه رجب مثلنا تماما مرددا معنا (أبويا جه أبويا جه ) وكانه كان يريد أن يحس فعلا أنه مثلنا ومثل أي إنسان يريد أن يشعر أن له أب – تراجعت أمى الي المطبخ باكيه – وأهتززت أنا متأثرا ( ياد- دانت زي القرد أهه- إعملي له يأمه شوية فول نابت بالليمون وهو هيبقى كويس ) كان الوالد دائما ما يعطف عليه وكنت اسمعه يقول لأمي ( تصدقي ياحاجه الواد ده طيب فيه بركه إمبارح وأنا رايح الشغل الصبح جري ورايا وقالي أنا نفسي في الشمام ياعم عبد النبي – لقيت الراجل البياع دخل ومعاة حتتين ومن غير ما يعرف قالي حته للبيت وحته لله)
كنت دائما أجلس معه أمام البيت وعند الحاج محمود رزق – أمنيه حياته أن يستحم بماء ساخن وصابونه بالريحه كما يقول أو يدخل حماما أو ينام علي سجادة في غرفه لها أربعة جدران – ليست له معاناه مع الحياة – له في الدنيا كل الناس وعليه جلبيه قديمه والباقي علي الله.
ذات صباح رأيته جالسا مع عم محمود رزق في البلكونه – نادى علي (عم سيد – إَّزيك إنت رايح الشغل ) قلت له ( أيوه يارجب – عايز حاجه ) صاح مرددا ( لأ- الله يسهل طريقك – بقولك إيه ما تخليك معايا النهاردة ) – نزلت كلمته علي قويه مرعبة كالزلزال لأول مرة يطلبها منى أحسست من داخلي بمزيج من الرهبه والحنان الخوف واللهفه ماذا سيحدث وماذا يخبئه القدر لي – ترددت في الذهاب إلي عملي ولكنى عقدت العزم بعد أن قلت له ( عم محمود معاك ) إبتسم بهدوء (طيب)
قال لي محمود رزق ( مبسوط ياعم 00 أهو رجب حبيبك بقي كبير خليه معايا وربنا يكرمنا إحنا الإثنين )- سعدت وأحسست أن الدنيا ليست بالمستحيله ويمكن أن تكون بسيطه وهادئه إذا تنازل الإنسان عن الشكليات
إنقضي اليوم علي ملل – رجعت من عملي مساءا – رأيت الحارة علي غير عادتها – بكاء ورثاء وأحزان – جسد هزيل ممد علي الأرض بجانب الفرن وعليه كومة من الجرائد – نسوة باكيات – شباب يهرولون هنا وهناك والكل مهموم عم محمود خارا علي ركبتيه مهموما – المعلم مرغني صاحب الفرن يضرب كفا بأخري مرددا ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) – إنقباضه وقشعريرة بها طعم اليتم سرت في كياني – أكشف الجرائد عن شاب صغيرحالم ملوث بالدماء والتراب بجلبابه الباهت وبجانبة طبقُه الصَّدإ الصغير وعلي شفتية إنفراجة بسمة باهته وبدون وعي إنحنيت عليه – أخذته في صدري أحتضتنه بشدة ودموعي الغزيرة تنهمر علي وجهه ورجب ممددا وحيدا – قابل الموت بإبتسامه وقهر الدنيا بعفويه .ِ
سيد عبد النبى محمد

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى