أدب و ثقافةروايات و قصص

العنقاء 2 الجزء الثاني

محمد رضا كافي

القصة الفائزة بالمركز الثاني جائزة صلاح هلال الأدبية  الجزء الثاني

??????

كان “خالد” رغم شحوب وجهه لامع العينين مبتسما في سعادة وهو ينطق بكلماته الغريبة إلى أن استوقفته في دهشة متسائلا:
– ماذا؟! ماذا تقول؟!
– ألم تفهم ما قلته ؟
– لا أفهم ما تعنيه..
فعاد بظهره إلى الوراء وقد اختفت ابتسامته عن وجهه وهويسألني:
– و ما الذي لم تفهمه في كلماتي ؟
فقلت و أنا أعيد على مسامعه ما قاله محاولا استيعاب مضمونه :
– أنت تقول أن أحد الملائكة قد زارك و أنت تعاني من الحزن الشديد…و أنبأك أن طائر العنقاء على وشك أن يجدد حياته… و أنه بحلول أولى لحظات الألفية الجديدة سيحملك معه إلى بلاد الشرق السعيد …مملكة الخيال…

فقال ببساطة و بديهية :
– نعم …و ماذا في ذلك ؟
فصاح “حسام”:
– بربك يا صديقي ..! العنقاء طائر أسطوري…من المستحيلات الثلاثة ..دعك من هذه الترهات و عد إلى رشدك..و التفت إلى مستقبلك .
فقال “خالد” في شيء من الغضب:
– ليست ترهات…أنا أعي ما أقول..و أنا مثلكما لم أصدق ما أرى و لكنه أقسم لي…ذاك الملاك كان حقيقيا …..لم أصل إلى مرحلة الجنون بعد .
فقال “حسام” :
– أنت على أعتابها بالفعل يا صديقي…ما تقوله مستحيل .
فابتسم “خالد” وعاد إلى هدءوه وهو يقول:
– و ما هي المستحيلات الثلاثة ؟
فقلت في بديهية :
– الغول , العنقاء , و الخل الوفي..
فقال في سرعة :
– و ما يهمكما في أمري أيها الخليلان ؟ مالذي أتى بكما هنا الآن ؟
فنقل “حسام”بصره بين “خالد” وبيني قبل أن يطرق رأسه ,بينما قلت في استسلام :
– الوفاء…!! الوفاء يا صديقي ..
فنهض “خالد” و اقترب منا و وضع يديه على كتفينا و هو يقول مبتسما :
– ألا تريا أني قد حطمت إحدى المستحيلات إذن ؟ لدي صديقين وفيين …و ليس واحدا ….
تبادلت النظرات مع “حسام” ولم نجد لكلمات “خالد” ردًا فاستطرد :
– الإنسان يطلق على ما يصعب تحقيقه مستحيلا…و لكن الحقيقة هي أن المستحيل …لا شيء .

و كان جليًا أننا لن نستطيع أن نثنيه عن فكره , و لم نكن نعلم كيف سينقله هذا الطائر المسمى بالعنقاء إلى مملكة الخيال , هو نفسه لم يكن يعرف , وكل ما قاله ” سيرشدني الملاك إلى الطريق …عندما يحين الوقت “.
وما أن خرجنا من شقة “خالد” حتى أخرج “حسام” هاتفه المحمول وضغط على عدة أرقام في سرعة ,فسألته :
– بمن تتصل ؟
– بطبيب “خالد” النفسي …لابد أن نخبره بحالته…
و بعد محاولات عديدة مع الشبكة المزدحمة , أتانا صوت الطبيب بصعوبة , و شرع “حسام” يخبره بما حدث , فما كان من جواب الطبيب إلا أن نحاول أن نخرجه من بيته مساء اليوم التالي إلى أجواء الإحتفال بالألفية الجديدة , فإن هذا من شأنه أن يحسن من حالته كثيرًا , حتى نأتي به إليه بعد الغد لأنه خارج المدينة هو و أسرته في الوقت الراهن…
إلتفت “حسام” إلي بعد انتهاء المكالمة و متسائلا في حيرة :
– ماذا سنفعل الآن ؟ هل سنتركه هكذا ؟
– وهل سنراقبه ؟ لقد رفض أن يبقى معه أحد ..
فتنهد “حسام ” في ضيق قائلا:
– لقد أذن لي رب عملي بساعة بصعوبة بالغة…أنت تعلم ما فيه محلات الهدايا الآن … وسأظل أعمل حتى وقت متأخر من مساء اليوم…
فأومأت برأسي متفهما وأنا أقول :
– لا عليك …سنطمئن عليه هاتفيا إلى أن نتقابل في الغد لننفذ ما قاله الطبيب…

ثم افترقنا وأنا تروادني أفكار عن “العنقاء” …طائر أسطوري…هذا كل ما أعرفه عنه ..وهذا كل ما يعرفه معظم الناس الآن … تجولت كثيرا في شوارع العاصمة و أنا أفكر في الأمر الذي دفع صديقي لهذا الإعتقاد ,و قد راودتني فكرة أن ما يقوله لا يعدو عن كونه بعض من الهلوسات الناتجة عن إختلاءه بنفسه كثيرا , و قد صورت له نفسه المتألمة و المستوحدة الملاك الذي رآه , و ما قاله عن العنقاء هو مخزون من المعلومات بعقله الباطن …و لكن مهلا… لقد قال الكثير عن طائر العنقاء ,” على وشك أن يجدد حياته… بحلول أولى لحظات الألفية الجديدة سيحملني معه إلى بلاد الشرق السعيد …مملكة الخيال…” ما عهدته إلا لاهيًا لا يحب القراءة , لم يكن يوما من هواة القراءة و الإطلاع, فمن أين أتى بكل هذا إن لم تكن مجرد هلوسات …

لا أدري ما الذي دفعني للبحث عن حقيقة الأمر , فبحلول المساء كنت أمام حاسبي الآلي أتصفح الشبكة العنكبوتية عن أي معلومات عن الطائر المجهول , ونتاج سويعات من البحث كان عجيبا , فلم تكن أسطورة طائر العنقاء تخص شعبا أو حضارة معينة كباقي الأساطير , بل امتدت إلى معظم حضارات العالم القديم … المصريون و العرب و الصينيون و الفينيقيون و الرومانيون جميعهم عرفوا الطائر الخرافي و كتبوا عنه , و أشهر ما وجدته عنه أن هناك بعيداُ في بلاد الشرق السعيد البعيد – أو كما أطلقوا عليها “مملكة الخيال ” – تـفـتـح بـوابــة الســمــاء الضخـمــة وتسكب الشمـس نورهـا من خلالها، وتوجد خلف البوابة شجـرة دائمة الخضرة.. مكان كله جمال لا تسكنه أمـراض ولا شيخوخة، ولا موت، ولا أعمال رديئة، و لا خوف، و لاحـزن.
وفـى هـذا البستان يسكن طائر واحد فقط، العنقاء ذو المنقار الطويل المستقيم، والرأس التي تزينها ريشتان ممتدتان إلى الخلف، وعندمـا تستيقظ العنقاء تبدأ في ترديد أغنية بصوت رائع

وبعد ألف عام، أرادت العنقاء أن تولـد ثانيـة، فتركت مـوطـنها وسـعـت صـوب هـذا العالم واتجهت إلى معبد إله الشمس (رع) في مدينة هليوبوليس، وفي هيكل رَعْ، ينتصب طائر العنقاء رافعًا جناحيه إلى أعلي ,ثم يصفِّق بهما تصفيقًا حادًّا ,وما هي إلاَّ لمحة حتى يلتهب الجناحان فيبدوان وكأنهما مروحة من نار بعـد ذلك تمـوت فى النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد.. دودة لهـا لـون كـاللبـن تتحـول إلـى شـرنقـة، وتخـرج مـن هـذه الشـرنقـة عـنقاء جـديدة تطـير عـائدة إلـى موطـنها الأصلي، وتنثر بقايا جسدها القديم على مذبح الشمس في هليوبوليس بمـصــر، ويحيـي شـعـب مصـر هـذا الطـائر الـعـجـيب، قبل أن يعـود لبلده في الشـرق…

وفي الحضارة الصينية القديمة كانت مكانة العنقاء أعلى من مكانة التنين حيث تحتل صور العنقاء مكانة متقدمة في الرسومات الجدراية والحريرية في أسرة “هان ” الملكية، وفي بعض هذه الرسومات ينقر العنقاء التنين بفمه.

وخلال تطور المجتمع الإقطاعي الطويل تغيرت مكانة العنقاء والتنين رويدا رويدا حيث أصبح التنين رمزا للأباطرة فيما نزل طائر العنقاء الى المرتبة الثانية وأصبح رمزا الى محظيات الاباطرة. وفي أسرة ” تشينغ ” الملكية بدأت صور طائر العنقاء المحبوب لدي أبناء الشعب الصيني تنتشر وسطهم، حيث يستخدم عامة الناس كلمة “عنقاء” في تسمية بعض الأطعمة والملابس والمباني والمناسبات السعيدة وغيرها من نواحي الحياة، بالإضافة الى تسمية الفتيات باسم “العنقاء”. وقد أصبح طائر العنقاء بجانب التنين رمزا الى الأمة الصينية ويحبه الشعب الصيني حبا جما ….
ولا أجد داعيا لذكر باقي الأساطير التي نسجت حول العنقاء…الطائر الذي تحول إلى أسطورة عالمية … ولا أحتاج إلى أن أصف ما شعرت به عند قرائتي إياها , وما قاله “خالد” أيضا ظل عالقا بذهني المرهق , ورغم كل هذا ,إلا أنه ظل راسخا بذهني وقتها أن هذا كله لا يعدو كونه أسطورة تتلى , و مستحيلا لا يتحقق…
و بينما كنت على تلك الحالة إذ غلبني النوم بسبب إرهاقي الشديد , و رأيت و كأني أسير على جسر حديدي تتناثر عليه الأشواك , ممدود في فراغ أصهب ,تحيط به سحب متوهجة و كأنه الشفق , ومن خلفي عالم مظلم يحترق في بعض مواضعه , و من أمامي – عند نهاية الجسر – قصور متلألئة و كأنها مصنوعة من اللؤلؤ , منتصبة بين مروج خضر كثيفة… و بمشقة على الجسر الوعر أحاول الوصول إليها , و أشعر بالأشواك تخترق قدميِّ و تصيبهما بجروح دامية , و يزداد الأمر صعوبة مع الألم , إلى أن سمعت صوت طائر يخترق السحب … صوت ملائكي عذب .. فالتفت لأرى طائرا عظيما ضخما يشبه في شكله الطاووس الضخم بعنق طويل كالأفعى , جسمه مكسو بالريش الذهبي المحمر , فيجعله وكأنه يلتهب , جناحاه عظيمان يخترقان السحب إختراقا …فأصابني الذهول من أمره غير أنني عرفت أنه طائر العنقاء الأسطوري … إقترب من الجسر ببطء وهبط قليلا إلى مستوى الجسر فازدادت دهشتي عندما رأيت من على ظهره …”خالد” يقود العنقاء … نظر إلي مبتسما وهو يقول :
– ألازلت لاتصدق الأمر يا صديقي ؟
فقلت في دهشة :
– هذا يهدم ما تعلمناه … هذا يهدم ما اعتقدناه …هذا يهدم علما كاملا يسمى “المنطق” …
فضحك “خالد” وقال في شيء من السخرية وهو يشير إلى العالم المظلم:
– و أين المنطق فيما يحدث هناك يا صديقي ؟ أين المنطق في أن يقتل الرجل أخاه لا يعلم فيما قتله ؟ أين المنطق في أن يهدر الأب شرف ابنته ؟ أين المنطق في أن تبيع الأم رضيعها ؟ أين المنطق… في أن يتجرد الإنسان من كونه إنسانا ..ليقضي على العالم بيديه ..و يزرع البؤس و الشقاء في قلوب أقرب الناس إليه …ليسومهم سوء العذاب ؟ من أجل ماذا ؟! …

لم أجد ما أجيبه به , فقد كان كلامه صحيحا , لقد ساء أمر الدنيا كثيرا حتى خشيت أن يبعث الله بعذاب من السماء يهلك به الأرض و من عليها … نظرت إلى العالم المظلم في ضيق ثم وليت وجهي شطر مملكة الخيال بقصورها اللؤلؤية البيضاء و في نفسي حزن دفين و شك من أن أصل إليها مع كل هذا الألم …و كأن “خالدًا ” قد قرأ ما يجول بخاطري فقال :
– عظم الثواب من عظم الصبر يا صديقي … و الأكثر حظا في الوصول سريعا إلى هناك هم الأضعف بين الأخيار ..و الأقل ثوابا …و لكنها الرحمة… ماكنت لأجتاز ما تجتازه أنت … تجلد يا أخي …فإن موعدنا الجنة…

ترددت كلماته الأخيرة في كل مكان و هو يطير بالعنقاء صوب مملكة الخيال ,فجزعت من هذا و جريت محاولا التعلق بذيل العنقاء و أنا أقول :
– انتظر..لا يمكنك التخلي عني…لا يمكنك هذا ..
و لكني فشلت في اللحاق به و سقطت على الأشواك المؤلمة ,و طار بعيدا وصدى صوته يصل إلى أذني قائلا :
– لكل منا قَدَره يا صديقي ..لكل منا قدَره…
**** يتبع ….

اظهر المزيد

نهاد كراره

نهاد كراره محاسبة وكاتبة مصرية صدر لها كتب مشتركة مثل بوح الصحبة و قطرات مطر وكتب فردية نيسان الوجع مدن الفراشات الدمشوري وآخر حدود الحلم نشرة العديد من المقالات علي المواقع الالكترونية المختلفة كموقع قل مقالات اجتماعية وبعض القصائد العمودية والعامية علي المواقع الأخرى صدر لها عدد من القصص في جرائد مختلفة منها صوت الشعب و جريدة القصة وغيرها عضو مجلس إدارة لموقع الصحبة نيوز مدير تنفيذي لدار الصحبة الثقافية للنشررالإلكتروني
زر الذهاب إلى الأعلى